سوق سمك الانتخابات!

ت + ت - الحجم الطبيعي

العالم كله أصبح عالم انتخابات، هناك انتخابات يمنية وفرنسية ومصرية وأميركية وليبية وكويتية، وانتخابات قمرية.

ويبدو أننا نعيش قرن الانتخابات بعد قرن الحروب العالمية. فلم يحدث أن اتفقت كل دول العالم على الانتخابات كما اتفقت عليها في الشهور الأخيرة. والصراع محتدم بين المرشحين والمنتخبين.

الانتخابات في الزمن الماضي كانت كالجوهرة ثمينة المعنى. حتى ولو كانت مغشوشة. وكان لها لون ولها طعم ولها رائحة. أما الانتخابات التي نشهدها هذه الأيام فهي تشبه الاكسسوارات النسائية. جميلة من على بعد أمتار، ممجوجة عن قرب.

ما علينا، نحن في كل الأحوال في حاجة لانتخابات حتى دون الرجوع إلى مصدر الكلمة وما تعنيه من معان. لأنه لم يعد لنا حاجة بمعنى الكلمة بقدر ما نحن في حاجة للكلمة في حد ذاتها. فكلمة انتخابات أصبحت كتحية «السلام عليكم». نقولها دون أن ندرك إننا عندما نطلق هذه التحية مئات المرات في اليوم الواحد فإننا في حقيقة الأمر نوقع اتفاقية سلام شفوية مع الطرف الآخر.

ولو أننا فرضنا أن تكون التحية تحريرية وموقعة من الطرفين، فصدقوني بأنه لن يوقع عليها أحد. لأنها تفرض التزاماً خطياً بالسلام بين الطرفين لا رجعة فيه. وبالتالي سيكون محرماً اعتداء أحد طرفي الاتفاقية. مع أن التعاقد الشفوي لا يختلف في جوهره عن التعاقد التحريري.

أيضاً ما علينا. نحن نتحدث عن الانتخابات، فما لنا والسلام عليكو؟ وكلمة الانتخاب جاءت من الفعل (نخب) و(انتخب) ومنها جاءت صفة واسم (نخبة). والكل بالطبع يعرف من هم النخبة. نخبة المجتمع، مثلاً. ونخبة المثقفين. ونخبة العلماء. أي عن أفضلهم وأعلاهم مكانة. ولو أننا لم نسمع بعد عن نخبة السياسيين، والأسباب عديدة وقد تكون مثيرة للجدل. ولم نسمع أيضاً عن نخبة الرؤساء. لذا لا أعرف من أين جاءت كلمة الانتخابات الرئاسية.

بمعنى، هل الرئيس الأميركي أوباما، على سبيل المثال، هو نخبة المجتمع الأميركي لينتخب كأفضل رجل (من بين 315 مليون أميركي) ليصبح رئيساً لأقوى دولة عسكرية وصناعية في العالم؟ وهل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، مثلًا، هو نخبة الشعب الفرنسي (65 مليون فرنسي) ليحكم جمهوريتهم طوال خمسة أعوام؟ وكذلك الأمر بالنسبة لباقي دول العالم التي تنتخب رئيسها. وكذلك بالنسبة لكل أنواع (الانتخابات) الأخرى.

والمصيبة أن العديد من الانتخابات وخاصة الرئاسية، كثيراً ما تثير الكثير من اللغط. فالاتهامات بتزوير الانتخابات أصبحت أمراً شائعاً. فكيف أؤمن بأن يحكمني رئيس بنزاهة مطلقة وقد وصل إلى الحكم بطريقة فيها تزوير؟ بالطبع نحن نتحدث عن حالات التزوير التي تمت في انتخابات الرئاسة دون اكتشافها. وتم تمريرها على أنها نزيهة وشفافة مائة بالمائة. ثم أن هناك هامش الخطأ في عملية عد الأصوات. ويعتقد البعض أن هامش الخطأ قد يصل إلى 1 أو 2 بالمائة.

وهذه نسبة كبيرة عندما نتحدث عن ملايين الناخبين. وإذا ما وضعنا في الاعتبار بأنه في أحيان كثيرة يكون الفارق الذي يحدد فوز مرشح على غريمه: صوت واحد، وربما يكون هذا الصوت الواحد ضمن هامش الخطأ، وبالتالي، يكون رئيس الجمهورية رئيساً بالخطأ.

كلا، نحن لا نتفلسف، فهي قضية خطيرة للغاية فيما يتعلق بمستقبل الدول سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً. فلنتخيل أن يفوز حزب اليمين المتطرف في فرنسا على حزب اليسار المتطرف بفارق صوت واحد. ويكون هذا الفارق سببه خطأ أثناء عملية العد.

كل مستقبل فرنسا سيتغير طبقاً لهذا الخطأ الفادح. وسيلقي اليمين المتطرف بالمهاجرين في البحر. والسبب؟ صوت واحد بالخطأ، أي أن من يحدد رئيس فرنسا في نهاية الأمر ليس المنتخبين الذين يقفون أمام صناديق الاقتراع على مدى ساعات طوال، بل الموظف المكلف بالعد، وهذا أمر مضحك.

غير أن الأمر الأكثر إضحاكاً، هو انتخاب رئيس بناءً على برامجه الانتخابية. ويبدو أن معظم هذه البرامج وعود كاذبة. إما يتم إغفالها بعد الفوز، أو الالتفاف عليها أو طيها. وهكذا تلصق بصفة المرشحين صفة الكذب إضافة إلى صفة التزوير السابقة الذكر. وبما أن التزوير كتزوير العملة مثلًا، قد يصل عقابه إلى السجن المؤبد، فيا ترى ما عقاب من يقوم بتزوير مصير الشعوب وآمالها وطموحاتها؟ والكذب عقابه عدم الأخذ بشهادة الكاذب. فكيف يحكم شعب من الشعوب رجل مطعون في شهادته؟

وفي الدول المتقدمة يحدث هذا كثيراً. والأمثلة لا تسع مقالتنا هذه. ونسبة كبيرة من المنتخبين تختار هذا المرشح أو ذاك بناءً على واحد من وعوده الانتخابية، كزيادة الرواتب، أو تقليص سن التقاعد، أو خفض الأسعار أو نسبة البطالة.. إلخ، والمرشح يعلم في داخله جيداً بأنه غير قادر على الوفاء بوعوده.

بكلمة أخرى، هو يكذب على منتخبيه. نحن لم نتحدث بعد عن قضية مثيرة للجدل متعلقة بشراء الأصوات، دون الالتفات إلى نوعية المرشح الشاري والناخب البائع. وهذا يحدث عندنا كثيراً. وبالتالي، فإن مسألة الانتخابات أصبحت مسألة بيع وشراء وعرض وطلب ومن يدفع أكثر، تماماً كما يحدث يومياً في سوق السمك أو سوق المواشي. وعندما تصل الانتخابات المصيرية للشعوب إلى درجة البيع في سوق المواشي وإلى البائع الكاذب أو البائع المزور، فعلى الدنيا السلام.

الانتخابات يجب أن تكون على مستوى يرقى بالأمم، ويرفع من مكانتها، بغض النظر عن الحزب الذي يمثله المرشح، وإنما بناءً على برامجه الانتخابية. ويجب أن تشكل محاكم قضائية لمحاسبة الرئيس سنوياً على تحقيق وعوده وأسباب فشله في ذلك.

 

Email