المحنة اليونانية والربيع العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

المضمون السياسي - وجوهره التحرر من الحكم الاستبدادي - هو الطابع الغالب على ثورات الربيع العربي. لكن هذا ليس سوى نقلة إلى مرحلة كفاحية من نوع آخر. بكلمة واحدة.. أصبحت الشعوب العربية بحاجة إلى ثورات اقتصادية. ولاستبانة هذه الحاجة علينا أن نتوقف لننظر إلى ما جرى ويجري لشعب اليونان.

بعد أن بلغ الاقتصاد اليوناني حافة الإفلاس الشامل منحدراً إلى هاوية لا قرار لها يعيش شعب اليونان محنة معيشية تحت عنوان «التقشف».

يقول الكاتب البريطاني وليام وول إن الهدف من إجراءات التقشف هو فرض شروط على اليونان لن يستطيع أي شعب أن يتحمل وطأتها. هي شروط الدائنين الخارجيين التي تعني عملياً استنزاف موارد البلاد إلى أن تضطر الحكومة إلى بيع الاقتصاد الوطني لمجموعة المؤسسات الدائنة.

من أبرز الشروط المطبقة فعلياً تحت عنوان التقشف خفض اعتمادات الرعاية الصحية في الميزانية العامة بنسبة 50% وخفض الحد الأدنى للأجور بنسبة 32% للعاملين الذين تقل أعمارهم عن سن الخامسة والعشرين وبنسبة 22% لمن تزيد أعمارهم عن الخامسة والعشرين.

نسبة البطالة بين الشباب تبلغ 48%. وتشريد نسبة عظمى من العاملين في القطاع العام سوف يؤدي إلى مضاعفة أعداد العاملين.

يترافق مع ذلك إغلاق المدارس بسبب خفض آخر في اعتمادات التعليم. تتوالى تخفيضات الميزانية العامة معاشات التقاعد ورواتب موظفي الخدمة المدنية. بالإضافة إلى هذا كله هناك برنامج ضخم لعمليات خصخصة بالجملة لبيع شركات ومؤسسات القطاع العام.

أصل القصة أن الدولة اليونانية صارت عاجزة عن مواصلة سداد أقساط ديون تعد بمئات المليارات من الدولارات.

الدائنون هم مجموعة بنوك أوروبية خاصة وصناديق مالية خاصة ومعها صندوق النقد الدولي.

هنا يصبح شيء من التوضيح لازماً. أولا أن النسبة المئوية الأعظم من الديون هي في الحقيقة فوائدها. فمبالغ القروض الأصلية سبق أن سددت بالفعل. ثانيا تتحدث مجموعة الدائنين عن ما تسميه «خطة الانقاذ» بمعنى الدولة اليونانية من الانزلاق إلى نقطة التخلف الكامل عن مواصلة السداد.

وعملية «الانقاذ» في هذا السياق تعني إعطاء الحكومة اليونانية «قرضاً» جديداً بفوائد باهظة ومركبة مما يؤدي بالطبع إلى مضاعفة المديونية.

والمغزى لا يخفى: وهو إبقاء اليونان تحت وطأة ديون إلى الأبد مع تجريدها تماماً من موادها الاقتصادية باسم «الخصخصة التعويضية».

يقول وليام وول: عندما تستخدم عرضا مصطلحا مثل «الانقاذ» فإن من المهم أن نستذكر أن المراد إنقاذه ليس الشعب اليوناني. فعملية «الإنقاذ» الزائفة لن تنقذ أي فرد يوناني وإنما هي إنقاذ أباطرة النظام المالي الذين تمثلهم مجموعة الدائنين - كبرى البنوك والصناديق المالية في الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي. وهكذا فإن الطرف الذي سيدفع قسرا هو الشعب اليوناني - يدفع على حساب أمواله.. وعلى حساب معاناته.. وعلى حساب التعليم والرعاية الصحية.

علينا هنا أن نتوقف لنطرح تساؤلاً كبيراً: أليس شعب اليونان شعباً أوروبيا كالشعب الألماني والشعب الفرنسي مثلاً؟ وأليست اليونان «دولة شقيقة» من المنظور الأوروبي؟

ووراء السؤال سؤال: إذا كانت دول الاتحاد الأوروبي لا تتورع من استخدام نهج أخلاقي تجاه شعب دولة أوروبية شقيقة والتضحية برفاهية هذا الشعب في سبيل اقتضاء ديون غير مشروعة فكيف وعلى أي نحو يكون تعاملها مع دول غير أوروبية - كالدول العربية - مثقلة بمديونية تتكون معظمها من فوائد مركبة؟

قريباً سوف تجد الدول العربية المدينة - خاصة دول ثورات الربيع مثل مصر وتونس من نفسها في مواجهة حرب اقتصادية من قبل مجموعة دول منطقة اليورو. فهل تستقرئ التجربة اليونانية وتتعظ منها؟

ثورة الشارع في كل من مصر وتونس كان لها أجندة سياسية بهدف التحرر من سلطة حكم استبدادية. والآن يأتي دور الأجندة الاقتصادية التي ينبغي أن تكون أعلى أولوياتها كيفية التعامل مع المديونية الخارجية وفق استراتيجية حازمة.

 

Email