ساركوزي.. وعند الامتحان

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد طول انتظار، أعلن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أخيرا، ترشحه لولاية ثانية، مختارا القناة الفرنسية الأولى لإذاعة الخبر.

 وهذا الانتظار كان مقصودا، وكان تكتيكا ليس سيئا مطلقا. وهو تكتيك مأخوذ بحذافيره من عادات بعض العرب، الذين يرون في التأخر هيبة تلقي بالضوء وبالثقل على شخصية الرجل، ومن هنا جاء المثل الشعبي الفرنسي "موعد عربي"، على من يتأخر كثيرا عن موعده!

وبالفعل، ورغم تأكد المواطنين الفرنسيين باستحالة أن لا يرشح رجل طموح ومغامر كساركوزي نفسه لولاية ثانية، إلا أن فترة الانتظار التي فصلت بين ترشح غريمه فرانسوا هولاند ممثلا لحزب اليسار، والإعلان عن ترشح ساركوزي ليلة الأربعاء، كانت كفيلة بسرقة الأضواء عن المرشحين الآخرين وإلقائها على ساركوزي.

ولا ننسى أن المرشح ما زال رئيسا للجمهورية منذ خمس سنوات، وله صولات وجولات في سدة الحكم، وكان هدفا للكثير من الانتقادات التي طالت ضعف قدراته على تحقيق طموح الفرنسيين، وكان سابقا وزيرا للداخلية في حكومة جاك شيراك، وأشيع الكثير عن حياته الخاصة، وبالخصوص قصصه مع زوجاته، ومن ثم زواجه للمرة الثالثة من كلارا بروني.

وهي في الأصل إيطالية فرنسية وعارضة أزياء وممثلة مغمورة. غير أن ظهوره مساء الخميس في مدينة آنسي، في أول خطاب له بعد إعلان ترشحه، ليفتتح به حملته الانتخابية أمام حشد من الفرنسيين من مؤيديه، قلب الكثير من الموازين. فالكل كان يراهن على استحالة انتخاب ساركوزي رئيسا للجمهورية الفرنسية لولاية ثانية.

فقد تذمر الفرنسيون على مدى خمس سنوات (كما تذمر هو أيضا من بعض أخطائه علنا)، من سوء التدبير وقلة الحيلة وحب المظاهر والمتع، والجري في بداية ولايته خلف بوش في حربه ضد الإرهاب. ثم عندما أخفق، أكمل الجري خلف ظلال أنغيلا ميركل، المستشارة الألمانية.

ربما فهم الأمريكان سر جري ساركوزي خلف رئيسهم السابق بوش، فتجاهلوه. فقيادة العالم لا يمكن أن تمر من أبواب الولايات المتحدة الأمريكية محكمة الإغلاق، كما تم تمرير حصان طرواده. فقد بدأ ساركوزي ولايته الأولى بمحاولة احتلال فاشلة، أقصد احتلال مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في قيادة العالم. والأسباب عديدة ومعقدة.

وأكبر من إمكانيات فرنسا لوحدها. وبعد أن زج بنفسه في أفغانستان، ها هو يعلن الحداد على دماء القتلى من الشباب الفرنسيين، الذين تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين من العمر.. ولم يكن هؤلاء مرتزقة كما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية في حروبها الخارجية، وإذا به سرعان ما يعلن الانسحاب من أفغانستان وهو كظيم.

فلاقت أحلامه في قيادة العالم ضربة قاصمة في أفغانستان، وكان قبلها قد غامر في ليبيا تحت غطاء إنساني. حتى تكشف للفرنسيين ما وراء تلك الأكمة، وابتلعوها على مضض، في الوقت الذي غض الإعلام الفرنسي الطرف عما كان يحدث في ليبيا على أيدي الثوار بغطاء فرنسي.

البارحة، خرج ساركوزي بوجه جديد، وبدأ برنامجه الانتخابي بعرض قائمة من التغييرات التي يرمي إلى تحقيقها، وقد تشكل سببا من أسباب خسارته القادمة، ومنها قضية المهاجرين، وهي أمر في غاية الحساسية بالنسبة للفرنسيين. ففرنسا صاحبة إعلان حقوق الإنسان وملجأ المضطهدين، فهل تتحول إلى سفن ترحيل؟

وساركوزي صاحب تاريخ حافل في مواقفه ضد المهاجرين، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، عملية ترحيل المئات من الغجر إلى رومانيا وبلغاريا صيف 2010، حتى تدخل البرلمان الأوروبي لوقف مثل هذه التصرفات وغيرها، التي تسيء إلى حقوق الإنسان وسمعة أوروبا، إلى درجة أن مارين لو بين الأمينة العامة لحزب اليمين المتطرف، صرحت بأن ساركوزي يسرق برامج الحزب الذي أسسه والدها جان ماري لو بين.

كما أن من المسائل التي طرحها ساركوزي في برنامجه المستقبلي فيما لو انتخب رئيسا، طرح الاستفتاء الشعبي المباشر في ما يخص القضايا الهامة، كموضوع الهجرة والبطالة. وقد قابله تهكم من قبل اليسار، فمثل هذه السياسات قد تنعكس ضد الرئيس نفسه. وكان من الأفضل لو طرح ساركوزي كيفية الاهتمام ووضع الحلول الجذرية والمستدامة للاقتصاد الفرنسي، فالأوضاع، في رأي منتقدي سياسة الرئيس ساركوزي، تردت كثيرا في فرنسا وعادت بها إلى الوراء، وأنه لا بد من رئيس جديد.

ربما رأى ساركوزي أن التجربة الألمانية هي الحل الأمثل للاقتصاد الفرنسي، وأن التقارب مع ألمانيا قد يجعل فرنسا في يوم من الأيام على قدم المساواة مع جارتها، غير أن ألمانيا ليست فرنسا، وميركل ليست ساركوزي. ومن الغريب أن يبحث ساركوزي عن حلول ألمانية لأزماته الاقتصادية، بدلا من البحث عن حلول فرنسية الصنع!

وكما نعلم، فإن الرئيس ساركوزي قد سافر في بداية ولايته على رأس وفد كبير من رجال الأعمال الفرنسيين إلى عدة دول خليجية، بغرض الحصول على عدة عقود تجارية ضخمة وفلكية الأرقام، غير أنه خرج منها بخفي حنين، اللهم إلا من بعض الفتات. فالعقود لم تكن بالمستوى الذي كان يحلم به، ووجهت له عدة انتقادات بأنه اصطحب معه العديد من أصحابه المقربين. ثم لم يعد الكرة بعد ذلك، حيث لم يعد في جعبته شيء جديد آخر.

حاول ساركوزي ليلة الخميس الماضي، أن يكون أكثر تأثيرا من حيث الشكل، فاستخدم نبرة صوت غير نبرته الاعتيادية، ذكرتنا بنبرة صوت الجنرال شارل ديغول المرعبة أثناء إلقاء خطاباته النارية، ونبرة الغضب في صوت فرانسوا ميتران، ووقفة غير وقفته التي اعتدنا عليها، تشبه إلى حد كبير وقفة فاليري جيسكار ديستان بقامته الفارعة أمام الميكروفون.

وإيماءات تشبه إلى حد كبير إيماءات جاك شيراك الذي كان ينتقي كلماته بدقة متناهية. فقد كان هؤلاء عمالقة الحكم الفرنسي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى آخر يوم في ولاية شيراك، حيث انتهى المطاف بهؤلاء الكبار. فهل يعيد ساركوزي المرشح من جديد، التاريخ من خلال تقليد نبراتهم وملامحهم وإيماءاتهم؟

لا أحد يعلم، ولكن ورقة الانتخاب التي في يد الشعب الفرنسي هي الوحيدة القادرة على الحكم، وشهر مايو على الأبواب.. وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان..

 

Email