إغاثة أم تجارة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

من بين أبرز أنواع التجارة العالمية غير المشروعة، اشتهرت تجارة المخدرات والاتجار بالبشر، لكن هناك نوعاً آخر لا تسلط عليه الأضواء كثيراً، وهو الاتجار بالمجاعات و"الإغاثة الإنسانية".

"برنامج الغذاء العالمي" منظمة تابعة لهيئة الأمم المتحدة، من المفترض أنها مكلفة بواجب إنساني يتمثل في التعامل الخيري مع بؤر المجاعة في أنحاء العالم الثالث، التي تنشأ عن حالات جفاف أو حالات حرب. وفي الأسبوع المنصرم انفردت صحيفة "الغارديان" البريطانية بتحقيق يكشف أن لأنشطة المنظمة جانباً تجارياً.

يقول التحقيق إن عشرات الملايين من الدولارات المخصصة للمنظمة لاستخدامها في إطعام الجوعى، انتهت إلى خزينة شركة خاصة مقرها في لندن، تعمل في مجال الاتجار بالقمح وأنواع أخرى من الحبوب الغذائية.

تقوم الشركة من حين لآخر بشراء كميات من القمح (أو غيره من الحبوب)، من فقراء المزارعين في البلدان الفقيرة بأسعار رخيصة، ثم تقوم ببيعها إلى برنامج الغذاء العالمي بأسعار مختلفة، لتحقق بذلك أقصى حد ممكن من الربح.

مثل هذه الصفقات تثير غير قليل من العجب، لأن رئيس البرنامج كان قد تعهد قبل عام تقريباً، بأن البرنامج ملتزم بالشراء رأساً من فقراء المزارعين دون إقحام وسيط. فلماذا صار الفعل مناقضاً للقول؟

هذا السؤال لا يزال معلقاً في الهواء. لقد تعددت الصفقات بين الشركة ـ واسمها "غلينكور" ـ وهذه المنظمة "الخيرية" التابعة للأمم المتحدة، بتعدد مواقع المجاعات في بلدان القارة الإفريقية. وعقدت أحدث الصفقات بشأن قمح للمجاعة في إثيوبيا العام الماضي، وذرة وبازلاء وقمح لمجاعات في كينيا وجيبوتي وبنغلاديش وغيرها.

وفي أحدث تقرير نشر على موقعها في الانترنت عن نصف العام السابق، ذكرت الشركة أن إيراداتها من المنتجات الزراعية تضاعفت إلى مبلغ 8,8 مليارات دولار. وأفاد التقرير أن أداءها التجاري، تلقى دفعة قوية من أرباح وافرة من الذرة والحبوب الزيتية.

وأحياناً تقوم الشركة بشراء كميات كبيرة من القمح عندما يكون سعره العالمي متدنياً، بغرض تخزينها لأمد زمني طويل، حتى إذا ما تصاعد السعر لاحقاً تقوم بطرح هذه الكميات على الزبائن ـ ومن بينهم الأمم المتحدة ـ بسعر باهظ، محققة بذلك أرباحاً مضاعفة.

لقد بات معلوماً أن هناك تواطؤاً بين منظمات "الإغاثة" العالمية وشركات غربية كبرى، تتستر عليه الحكومات الغربية. ولم يعد سراً أن الاتجار بالمجاعات في العالم الثالث، هو جزء من ظاهرة فساد عامة تشمل قيادات في الأمم المتحدة ومنظماتها.

وخلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، وعندما تسلم كورت فالد هايم منصب الأمين العام للأمم المتحدة، أعلن أنه يعتزم شن حملة ضد هذه الظاهرة.. وكانت النتيجة أن عقده لم يجدد لفترة تالية.

لقد تعددت جماعات "الإغاثة الإنسانية" بصفة "منظمات غير حكومية"، لكن أعمال الإغاثة ليست أولويتها على أية حال، إلا بمقدار ما تجلب لها هذه الأعمال من فوائد ربحية، عن طريق الاتجار بالمواد الإغاثية.

إن هذه المنظمات تتلقى أموالاً نقدية طائلة، مما تحصل عليه من حكومات ومؤسسات غربية وأفراد. والأولوية العليا هي كيفية استفادتها من هذه الأموال، على هيئة رواتب وامتيازات. يضاف إلى ذلك أن لهذه المنظمات صلات عمل منظم مع أجهزة الحكومات الغربية، وتحديداً الوكالات الاستخباراتية ووزارات الخارجية. وعلى هذا النحو فإنها تكلف بمهام تجسسية ولوجستية وإعلامية، خاصة إذا كانت عناصرها تعمل في مناطق حرب.

وإجمالاً، يبدو الأمر وكأن الحكومات الغربية ترغب في استمرار بؤر المجاعات، وإلا فإنها إذا أرادت حقاً وضع حد للجوع والمسغبة في إفريقيا، فإن لديها خيارين:

أولا؛ توزيع ما لديها من فوائض الأغذية ـ خاصة القمح ومنتجات الألبان ـ على مناطق المجاعات التي تنشأ من ظروف الجفاف، علماً بأن هذه الفوائض تتجدد سنوياً.

وثانيا؛ تدعيم إمكانيات "منظمة الأغذية والزراعة" التابعة للأمم المتحدة، لتنفيذ مشاريع زراعية طموحة في بعض البلدان الإفريقية، لمساعدتها في تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي.

وإلى أن يتسنى تطبيق أي من هذين الخيارين، فإن الإغاثة تبقى للأسف تجارة، مثلها مثل تجارة المخدرات وتجارة بيع الأطفال وتجارة بيع الفتيات لأغراض الدعارة.

 

Email