جزء مني وأنا جزء منه

ت + ت - الحجم الطبيعي

من الصعب الكتابة عن علاقة حب وكراهية في الوقت نفسه، ولكي أنفذ للموضوع فوراً، يجب أن أعترف بأن هناك شخصين يسكنان في داخلي، أولهما مروان البلوشي المواطن الإماراتي العربي المسلم، والشخص الآخر هو مروان البلوشي، المتأثر بالغرب.

ما زلت أذكر انطباعاتي عن زيارتي الأولى لاسطنبول، ففي اليوم الأول أصبت بالجزع الشديد، حدثت نفسي قائلاً: لقد تم مسخ هؤلاء القوم حضارياً. في اليوم الثاني بدأت عيناي بالتعود على رؤية الحروف العربية على واجهات المباني العثمانية العتيقة، وغير بعيد عنها الحروف اللاتينية على واجهات الأبنية والعمائر التركية الحديثة. في اليوم الثالث بدأت موسيقى المكان تتسلل إلى داخل روحي، لم أعد اهتم بالشرق والغرب.. ثم استوقفتني عجوز تركية قائلة:

«كان أجدادنا يشتكون من انتشار مرض الإفرنجي، يعني تقليد الغرب، الآن أدركت أنهم تنكروا قبل أي شيء لأنفسهم». وأضيف أنا: إنهم تنكروا لحركة التاريخ (وانتقال الأفكار والأهواء) الذي لا يحب التوقف عند الحدود ليستأذن من رقيب أو حسيب. وهذه ليست دعوةً للتخلي عن «خصوصيتنا الحضارية»، أو دعوة «للاستلاب الفكري» أو قبول «الغزو الثقافي».

وغيرها من الكلمات المعقدة التي لا أحبها، بل هي رغبة في أن ندرك وحدة الحضارة الإنسانية، أن نبرز الأصول المشتركة بين الحضارتين العربية الإسلامية والغربية. وهذه ليست بالمهمة السهلة، فهناك الكثير من الذكريات السيئة في عقولنا، والمظالم المستمرة من الغرب تجاهنا حاضراً. ولكن رغم هذا كله فنحن لا نستطيع أن ننقص الغرب حقه من التقدير وحتى الإعجاب.

إن من أجمل الأحاديث الشريفة التي قرأتها، ما روي عن نبي الإنسانية ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قوله عن الروم: «إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم ناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرّة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك». إن محمداً عليه الصلاة والسلام لم يستنكف عن الاعتراف بفضل الروم أي الغر، فهل نحن أفضل منه؟

ولكني كتبت في البداية عن علاقة حب ـ كراهية قديمة جداً تربطنا مع الغرب، البعض منا يحب الغرب لحد الثمالة والانبطاح، والبعض يكره الغرب لدرجة تجعله يقطع نصف العالم، يقود طائرة ليس نحو مدرج الأمان، بل نحو تغيير معادلات العالم وإلغاء بلدان وهز عروش!

سأكون صريحاً وأقول إني أحب الغرب، أحب الغرب جداً، أحب أفكار التنوير والحداثة التي جلبها لنا، مثل الحرية الفردية وحرية الضمير.. الخ، أحب وأستفيد من كافة الاختراعات التي قام بها وراكمها المبدعون الغربيون، من المصباح والكهرباء إلى الآيفون والآي باد، أحب السفر صيفاً كما يفعل الكثير منكم بين بلدان أوروبا، أحب الاستمتاع بمنتجات الحضارة الغربية الفنية، مثل الموسيقى أو الفن التشكيلي الحديث والأفلام، أو منتجاتها الأدبية، مثل قراءة الروايات وحضور المسرحيات في لندن أو نيويورك.. وكغيري من شبابنا، أحب متابعة مباريات ريال مدريد وبرشلونة وغيرها من مباريات الدوري الأوروبي.

ولكني أيضاً، أعرف أن هذا الغرب سبّب لقومي آلاماً كثيرة، أعرف أن هذا الغرب ينظر لي، لاسمي ولون بشرتي وديني، بشزر وقرف، أعرف أن هذا الغرب يصر على تفتيش حقائبي في مطاراته بهوس يليق بعتاة المجرمين والمهربين، وطبعاً الإرهابيين!

لكن الحقيقة فضفاضة متسعة لا تقبل التعميم، وفي بعض الأحيان متناقضة، ونحن نعيش في زمن لم يعد يسمح بتواجد هوية محلية أو قومية أو دينية نقية الدم. لذا اخترت البحث عن الحكمة في كلمات شيخ موريتاني لا نعرف عنه الكثير، هو العلامة عبدالله بن بيّه.

يقول بن بيّه: «والغاية من التواصل مع الغرب هو البحث عن نقاط الالتقاء عن طريق العقل والفهم والمنطق، للوصول إلى أرضية مشتركة تعتمد على المصالح المتبادلة، تكشف عن زيف رواسب التعصب التي تشوه صورة الإسلام والمسلمين». ويضيف بن بيّه في موضع آخر «والغاية الأخرى هي التلاقح الفكري، الذي يسمح بالتأثر والتأثير، وليحل التسامح محل نظرة الاستعلاء والتفوق لدى قطاع كبير في الغرب.

وهي نظرة تتلخص في إقصاء الآخر. كما أن من شأن التواصل أن يزيل النظرة الغالبة لدى قطاع من المسلمين، يعتبر الغرب كله شيطاناً ميئوساً من صداقته، مردوداً على كل أطروحاته حتى ولو كانت مفيدة للإنسانية».

أختار في النهاية أن أبقي على انتماءاتي بين الشرق والغرب كما هي، أن أرتاح في العالمين كما أفعل دائماً، وأن أواصل تجولي بحرية وراحة بينهما كما أريد، فأنا جزء من الغرب والشرق، وهما جزء مني.

 

Email