الانتخابات الرئاسية الفرنسية والوعود المملة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بدأ الحراك السياسي يتزايد في فرنسا هذه الأيام، تحضيرا لاختيار الرئيس الفرنسي القادم. وحيث إنه لم يتبق سوى شهرين على المرحلة الأولى، والتي تصادف 22 من شهر أبريل والأخيرة في 6 من شهر مايو القادم، فإن الوقت أصبح بالنسبة للمرشحين أغلى من الذهب.

ففي نهاية كل خمس سنوات (وهي مدة ولاية الرئيس)، تبدأ الاستعدادات على قدم وساق للتحضير للانتخابات الرئاسية القادمة. وتبدأ المهرجانات السياسية تأخذ بعدا واسعا من حياة الفرنسيين، من كافة الطبقات والأطياف والأجناس.

فكل مواطن فرنسي له همه وقضيته، ويضرب أخماسا بأسداس لاختيار من سيرشحه رئيسا له. ويلعب الإعلام دورا كبيرا في مثل هذه المناسبات، ويتحول التلفاز تدريجيا إلى شاشة تصريحات ومقابلات ووعود وأحلام، يطلقها المرشحون على الهواء مباشرة، لإقناع الناخبين المترددين ببرنامجهم الانتخابي.

ومعظم أحلام الفرنسيين تتمحور عادة حول الزيادات الثلاث: الضرائب، والبطالة، والهجرة. غير أن هناك قضايا أخرى تهم المواطن الفرنسي، منها المناهج التربوية، ووضع الأساتذة، وسن التقاعد، والأمن. ولم يعد انتخاب الرئيس أو النائب يقوم على أصله وفصله أو صورته أو حتى حزبه.

كما يحدث في معظم بلدان العالم المتنامي. فكثيرا ما حدث في فرنسا، كما حدث في اليونان مثلًا، أن الناخبين المنتمين إلى حزب اليسار قاموا بالتصويت لحزب اليمين أو العكس، تعبيرا عن الرفض أو الاعتراض أو الاحتجاج على سياسة حزبهم، أو كما يطلق البعض عليه "ضربة معلم".

لذا نجد أن الصحافة ووسائل الإعلام في فرنسا، مليئة هذه الأيام بالوعود والأحلام الوردية والابتسامات الصفراء. ومع أن المشكلة واحدة، فإن كل مرشح يطرح حلها من زاوية مختلفة. والشعب الفرنسي ـ كونه من الشعوب التي تقرأ ـ أصبح مع الوقت خبيرا ومتعمقا في الشؤون السياسية الداخلية لبلده، ولا يقوم باختيار مرشحه إلا بعد دراسة معمقة.

وهو عادة يطلق كلمة (سياسة Politique) على الشؤون المحلية، وليس كما نفعل نحن عندما نعني بها علاقات الدول فيما بينها. ولا نستثني من ذلك الأفراد الذين يحملون الجنسية الفرنسية من ذوي الأصول الأجنبية الذين يعيشون في فرنسا.

فهؤلاء هم أيضا يشاركون نفسيا في احتفالات المهرجان الانتخابي، ويعيشون نفس الحماس والمتابعة والمعرفة، لأنهم هم أيضا سيتأثرون إيجابا أو سلبا بنوعية الرئيس والحكومة التي سيقوم بالتالي بتشكيلها. فمعظم قرارات الرئيس والحكومة اليمينية، لو تم انتخابها، ستتجه إلى صالح أصحاب رؤوس الأموال على حساب الطبقة العاملة، والعكس صحيح.

لذا نجد أن الفرنسي لا تنطلي عليه لعبة السياسيين والمرشحين، ويعلم جيدا أن تسعين في المائة من الوعود التي يرسلها المرشحون للرئاسة، لا تتعدى الطعم الذي يوضع في نهاية سنارة الصيد بقصد اصطياد أصوات الناخبين، وأنها مجرد حبر على ورق، وأن اختيار نيكولا ساركوزي على فرانسوا هولاند، أو فرانسوا بايرو على جان لوك ميلينشون، لن يغير شيئا في نتائج اللعبة.

وربما لعب التذمر من الوضع القائم، وتعظيم الهفوات التي ارتكبها الرئيس المنتهية ولايته، دورا كبيرا في عدم انتخابه لولاية جديدة. أي أن انتخاب رئيس فرنسي جديد، بقدر ما هو أمر لا يمكن إهماله، إلا أنه في كثير من الأحيان لا يغير من الحال الذي سبقه.

ومن هنا جاء تهكم المواطن الفرنسي حين يقول ضاحكا، إن فئران الرئاسة لا تخرج من جحورها إلا مرة كل خمس سنوات! إشارة إلى الزيارات "التملقية" التي يقوم بها مرشحو الرئاسة إلى المناطق البعيدة والفقيرة، التي يأملون أن يحصدوا فيها نسبة كبيرة من الأصوات، وطريقة التودد المفتعلة التي يظهرها هؤلاء تجاه المواطنين.

وتوزيع الابتسامات الصفراء. وبمجرد انتهاء الانتخابات، فوزا ساحقا أو هزيمة نكراء، فإن الجميع يعود إلى مخبئة من جديد، ولا يسأل عن حال مواطنيه الذين وعدهم بالأحلام الوردية، هذا إن لم يكن قد انقلب ضد آمالهم وطموحاتهم! فبدلاً من تخفيض الضرائب يقوم برفعها، وبدلاً من تقليل نسبة البطالة تؤدي سياسته إلى زيادتها، وبدلاً من تخفيض الأسعار يضاعف التضخم.. وهكذا.

والحقيقة أن معظم المرشحين للانتخابات (أياً كان نوعها وأينما كانوا)، تكون وعودهم عادة أكبر بكثير من قدراتهم على تحقيقها، وكثيرا ما انقلب المرشح بعد فوزه ضد وعوده. الأكثر مرارة من ذلك، أنه يعاود ترشيح نفسه لانتخابات جديدة بوعود مماثلة..

هذه هي الحالة التي يعيشها المواطن الفرنسي اليوم. وكما نعلم، فإن طريقة الانتخاب الرئاسية في الجمهورية الفرنسية الرابعة، كانت تختلف تماما عما هي عليه اليوم. فقد كان الرئيس ينتخب وقتها من خلال مجموعة من النواب.

ولم يستطع المواطن الفرنسي أن يصوت مباشرة إلا في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، عندما قامت الجمهورية الخامسة على يد الرئيس الفرنسي الراحل الجنرال شارل ديغول، بعد أن قام بتعديل دستور الجمهورية الرابعة. مع أن بعض المشرعين ما زال يرى أن الجمهورية الخامسة الحالية غير قانونية! حيث إن دستور الجمهورية الرابعة لم يتضمن نصا يسمح بتعديل الدستور! غير أن الدستور في نظر ديغول لن يكون فوق مصلحة الوطن والمواطن.

السباق اليوم نحو كرسي الرئاسة، هو سباق فاتر نوعاً ما، ولم يعد بذلك الحماس زمن فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران وجاك شيراك.. لقد تعب الفرنسيون من زعمائهم، وبدؤوا يشكون في مصداقيتهم، خاصة بعد فضيحة دومينيك ستروس كان الأخلاقية، والذي كان مرشحا دون منازع لرئاسة فرنسا ممثلاً لحزب اليسار.

وكذلك بعد أن تابعوا أخبار رئيسهم الحالي نيكولا ساركوزي، الذي أقر في إحدى المقابلات التلفزيونية بالعديد من أخطائه الفادحة، وأعطى الانطباع العام بأنه قد لا يرشح نفسه لولاية ثانية. غير أنه في ما يبدو، لن يستطيع أن يقاوم إغراءات كرسي سيحكم من عليه فرنسا على مدى خمسة أعوام قادمة، وهو الذي يحب السلطة والمال.. وأشياء أخرى..

وقد استبق حملته الانتخابية مبتدئا بالتقرب من أصوات اليهود في فرنسا، عندما حضر حفل العشاء الذي أقامه مجلس المؤسسات اليهودية في فرنسا، وبحضور عائلة الجندي المفرج عنه جلعاد شاليط. ولا نتوقع أن تحظى الجالية الإسلامية في فرنسا بمثل تلك الزيارة.. والكل يعرف لماذا!

 

 

Email