المصالحة الفلسطينية بين ربيعين

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا تزال إعلانات المصالحة الفلسطينية تتوالى، وكأن نجاحها لم يكن ينقصه سوى بصمة دولة عربية أخرى، إلى جانب الدور المصري الذي يلخصه ما يعرف بـ"الوثيقة المصرية للمصالحة الفلسطينية"، التي توجت حوارات مطولة بين حركتي فتح وحماس، وأخرى محدودة بمشاركة كافة الفصائل الفلسطينية.

من الآن فصاعداً، سيتم الحديث عن "إعلان قطر"، باعتباره نقطة انطلاق حقيقية ذات طبيعة تنفيذية لما سبقه من حوارات واتفاقيات، ذلك أن الدولة الراعية، لا تملك تأثيراً سياسياً أكثر من أدوار دول عربية أخرى كمصر والسعودية مثلاً، وإنما لأن هذه الدولة سيترتب عليها أن تدفع ثمن فوزها بهذا الإعلان ـ الدور، سواء لجهة تسويقه، أو لجهة تحمل بعض تكاليف تنفيذه.

وفق "إعلان قطر"، سيتم تشكيل حكومة التوافق الوطني، من كفاءات مستقلة برئاسة الرئيس محمود عباس، الأمر الذي يؤدي عملياً إلى تجاوز عقدة مسمى رئيس الحكومة، بدون أي إساءة أو مساس برئيسي الحكومتين في الضفة سلام فياض، وفي غزة إسماعيل هنية، أو أي تعرض سلبي أو إيجابي للحكومتين.

بعض قياديي حركة حماس، وأيضاً الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يأخذون على هذه "التخريجة"، تعارضها وخروجها عن النظام الأساسي الفلسطيني، وهو بمثابة الدستور المؤقت، والذي ينص على الفصل بين رئاسة السلطة ورئاسة الحكومة، ولكن السؤال المهم هو: هل احتكمت عملية الانقسام إلى النظام الأساسي؟

وهل هذا النظام لا يزال يحظى بالاحترام وبالالتزام؟ لقد عصف الانقسام بكل القوانين والأنظمة التي تعرضت لانتهاكات جسيمة.

إعلان قطر، الذي سيتم البدء في تنفيذه في الثامن عشر من الشهر الجاري، خلال اجتماع للمرجعية القيادية المؤقتة لمنظمة التحرير، التي يشكل انعقادها بحد ذاته حلقة من حلقات المصالحة، هذا الإعلان يحدد بشكل حصري مهمة الحكومة بعنوانين، هما؛ التحضير للانتخابات التشريعية والرئاسية التي جرى تأجيلها لأسباب إجرائية.

كما ورد في التصريحات التفسيرية، ومهمة إعادة إعمار قطاع غزة، والتي يفترض أن تحظى بمساهمة قطرية مادية مجزية، الأمر الذي يضع علامة استفهام حول الجهة أو المؤسسة التي ستسند إليها مهمات إدارة الأوضاع الحياتية اليومية للفلسطينيين.

ومتابعة التفاصيل التنفيذية المتعلقة بالجوانب الإجرائية الأخرى لاتفاق المصالحة، الذي يشمل جوانب عديدة. الشارع الفلسطيني لم يبد اهتماماً ملموساً، لما جرى إعلانه في قطر، فلقد استهلكت الإعلانات الكثيرة والتصريحات السابقة، كل أمل لدى الجماهير الفلسطينية إزاء تحقيق المصالحة، حتى بات المواطن يتجنب الوقوع في خيبات أمل جديدة، بعد خيبات الأمل المتكررة التي حصدها.

وحتى النشطاء السياسيون، والمتابعون للشؤون الفلسطينية، لم يظهروا اهتماماً كافياً وملحوظاً بما تم إعلانه من العاصمة القطرية، فهم أيضاً يخشون أن تطيح الوقائع المعترضة العنيدة، بمصداقيتهم أو تشكك في صحة تحليلاتهم السياسية.

على أنه لا هذه اللامبالاة من قبل الجماهير الفلسطينية، ولا تلك الشكوك من قبل النشطاء السياسيين، قادرة على أن تنال من حقيقة أن المصالحة الفلسطينية قد بدأت منذ زمن، وأن العوامل الموضوعية والذاتية ذات العلاقة بالأمر، قد أصبحت مواتية وناضجة لإنجازها.

وحيث تتجاوز كونها اتفاقية واجبة التنفيذ، إلى كونها عنواناً لمرحلة طويلة، من المرجح أن تتخللها صعوبات كثيرة، ومحاولات قوية لوأدها.

لعل المراقب السياسي يلمس تزايد فعالية جماعات المصالح، التي نشأت خلال مرحلة الانقسام، وترى في تحقيق المصالحة ما يمس أو يطيح بمصالحها، ولذلك فإنها لن تتردد في الدفاع عن تلك المصالح، عبر محاولات علنية أو خفية، لإفشال المصالحة أو إبطائها قدر الممكن.

على أن إسرائيل تشكل الطرف الأكثر خسارة في حال تحقيق المصالحة، وهي الطرف الأكثر قدرة على التأثير السلبي في مجرياتها، وآليات تحققها. إسرائيل أخذت "إعلان قطر" على محمل الجد، وربما يعتبره رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو "حبل الإنقاذ" الذي سيحرر حكومته من تحمل المسؤولية عن فشل المفاوضات، ولتحويل كرة اللهب إلى الملعب الفلسطيني. وفي تصريح مكرر، قال نتانياهو "إن محمود عباس قد اختار الانحياز إلى حماس بدلاً من أن ينحاز إلى السلام".

والانحياز لحماس استناداً لفهم نتانياهو، يعني انحيازاً للإرهاب وتخلياً عن عملية السلام. يحاول نتانياهو، عبثاً، أن يلعب على وتر مهترئ، ربما لكي يقنع نفسه وائتلافه الحكومي المتطرف، ولكي يبرر لحكومته الإقدام على إجراءات عقابية صعبة ضد الفلسطينيين.

ولكنه يعرف أن العزف على هذا الوتر، أي وتر الإرهاب، ومسؤولية السلطة عن فشل المفاوضات، من غير المتوقع أن يؤدي إلى تحريض المجتمع الدولي، اللهم إلا إذا كان سينجح في ابتزاز الإدارة الأميركية تحت وطأة حاجة الرئيس أوباما للصوت الانتخابي اليهودي. الرئيس محمود عباس، يدرك تماماً ما تسعى إليه إسرائيل.

ويتوقع تصعيداً في أشكال العدوان على كل الفلسطينيين في الضفة وغزة على حد سواء، ولذلك فإنه في الوقت الذي يعلن فيه فشل المفاوضات ومسؤولية إسرائيل عن ذلك، لا يكف عن إعلان تمسكه بخيار المفاوضات، وبما يترتب على إسرائيل أن تفعله من أجل إنجاحها، وهو خطاب بات يحظى بمصداقيته لدى الدوائر الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، رغم وقوفها الدائم إلى جانب إسرائيل.

ويدرك الرئيس محمود عباس وكل القيادات الفلسطينية، أن إسرائيل ماضية في مخططاتها لنسف إمكانية تحقيق السلام، أو إقامة الدولة الفلسطينية، سواء تمت المصالحة أو لم تتم، ولذلك فإن تحقيق المصالحة، بما أنها تعتبر مصلحة فلسطينية خالصة، بات يشكل إنجازاً ذا أولوية بالنسبة للأطراف الفلسطينية، خصوصاً في ظل انغلاق الأفق أمام الخيارات الأخرى، حتى لو بقيت هذه الخيارات قائمة كعناوين للسياسة الفلسطينية بشقيها المقاوم والمفاوض، مع التحفظ على مثل هذا الفصل العسكري المفتعل.

إن التقييم المتفائل أو المتشائم لموضوع المصالحة الفلسطينية، ينبغي أن يأخذ في الاعتبار أن هذه العملية طويلة، وتحقيقها لن يكون سهلاً.

وعلى المتحمسين وغير المتحمسين لها، أن يتوقعوا الثمن الذي يترتب على الشعب الفلسطيني أن يدفعه مقابل النجاح أو الفشل، وأن حجم النجاح لا يمكن أن يصل إلى حالة استعادة الوحدة الكاملة، إذ إن تطبيق الاتفاق بالكامل، من غير المتوقع أن يؤدي إلى تغيير حقيقي وجذري في واقع سيطرة حماس على قطاع غزة، وحركة فتح على الضفة الغربية.

هنا تتجلى قدرة الفلسطينيين على التحدي وامتلاك الإرادة الصلبة، القادرة على تحقيق الإنجاز ورفض الخضوع للضغوطات والتحديات، التي تعترض طريق تحقيق وحدتهم، وتأجيل عاملهم الذاتي، بما يستجيب للتفاؤل الذي تولده رياح التغيير التي تهب على المنطقة العربية.

 

Email