عن الحاجة العربية لأتاتورك

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يمكنك أبداً أن تفهم كيف يفكر بعض الناس، يريدون كل شيء على "البارد والمستريح" كما نقول باللهجة العامية. للتقدم والمدنية ثمنهما الذي يجب أن ندفعه بالعملة الصعبة. هل نحن فقراء للدرجة التي لا تمكننا من دفع أثمان المدنية والتقدم؟ أم أنه شح من يملك ولا يريد أن يعطي؟

والمشي في شوارع إسطنبول المرصوفة بحجارة عتيقة متعبة تعود لعصور لم يعد يذكرها أحد، يثير الكثير من الشجون والمشاعر، ولكن ما يستدعي التفكر أكثر في منعطفات التاريخ ومصائر الأمم، هو صورة مصطفى كمال أتاتورك التي تجدها في كل مكان؛ من ميدان "تقسيم" وسط إسطنبول إلى القرى النائية الباردة التي تنوء بوجع الذاكرة على حدود أرمينيا.

قدّر لأتاتورك أن يكون وريث مشروع الإصلاح الذي بدأه العثمانيون منذ ستينيات القرن التاسع عشر، هذا المشروع الذي أراد من خلاله حكام الدولة العثمانية، اللحاق بالغرب عبر فتح المدارس وإعادة تنظيم العسكر وإلغاء فرق الإنكشارية وإقامة سكك حديد وبناء دور أوبرا ...الخ. أي أنه لم يكن البعبع الكافر كما يصوره بعض المصادر والكتب العربية، وحتى التغييرات الصادمة التي قام بها أتاتورك، كان قد تم التفكير في معظمها في أواخر حياة الدولة العثمانية. لم يكن أتاتورك سوى قائد ذكي، قدم متأخراً ليحصد نتاج تعب الآخرين.

لكن وجهة النظر هذه سطحية بقدر ما هي علاقتي مع أتاتورك متناقضة، أحب أتاتورك وأكرهه في الوقت نفسه. لا أحب عقدة النقص والدونية تجاه الغرب الموجودة في بعض إصلاحاته، إذ أجبر الأتراك على استخدام الحروف اللاتينية بدلاً من العربية، أو منعه للأتراك من لبس ملابسهم التقليدية وفرضه اللباس الغربي كنموذج لما يجب أن يرتديه الإنسان "المتحضر". وأكثر من أي شيء آخر فإن نزعة القمع والإكراه والتسلط على الآخرين، والتي تظهر في الكثير من قراراته وإصلاحاته، تنفرني منه وتجعلني أفكر في وضعه ضمن قائمة طويلة من دكتاتوريي وطغاة الشرق.

لعل بعض القراء قد لاحظ باستغراب أن الكاتب من الإمارات والشخصية التي يتحدث عنها بشغف من تركيا.. حسناً، الفائدة الكبرى التي قدمها مصطفى كمال أتاتورك للأتراك، عدا أنه حفظ استقلال بلدهم بعد انهيار الدولة العثمانية، هي أنه نثر البذور الأولى للدولة المدنية الحديثة في تركيا، والأهم وضعه أساسات مرجعية دستورية ترتفع فوق المصالح السياسية والاقتصادية المجتمعية والفئوية الضيقة.

مرجعية دستورية تخاطب جميع مواطني البلد بوصفهم أفراداً مستقلين ذوي حقوق وواجبات، مرجعية مدنية حديثة تحتضن الجميع بمختلف انتماءاتهم، ولا تلغي شرعيات راسخة كالدين والمذهب والقبيلة والعشيرة ...الخ. وهذا بالضبط ما يحتاج العرب للتعلم منه.

سيواجه العرب في المرحلة القادمة العديد من التحديات، كاستيعاب آثار الزلزال المسمى "الربيع العربي"، وغيرها من التحديات التي لا تمكن مواجهتها إلا بوجود مظلة دستورية مدنية، تأخذ مشروع الدولة في العالم العربي إلى أفق جديد، يجنبنا متاهات الدولة الدينية ومخاطر التمزق الطائفي والعرقي، وما يجر من سيناريوهات إعادة ترسيم الحدود والتقسيم. ولعل الهزات التي تتعرض لها منطقتنا تتيح لنا انتقاء اللحظة المناسبة، وهي ماثلة أمامنا الآن.

لم يكن التاريخ التركي منذ أتاتورك إلى أردوغان، تلك القصة الوردية الجميلة التي تمكن الكتابة عنها بقطعية واضحة، كما أن "النموذج التركي" كما يسميه الكثيرون ويتمناه كثيرون آخرون، غير قابل للاستنساخ بأي حال من الأحوال. لكن تبقى المرجعية الدستورية المدنية التي زرعها أتاتورك ونمتها أجيال الأتراك المتعاقبة، هي الثابت الوحيد الذي نستطيع نقله وتطبيقه إن أردنا.

ستقولون إن كاتب هذا المقال هو شاب متحمس ويبحث عن شيء من الأمل في نهاية نفق الكربات الطويل الذي ما زالت منطقتنا تعبره.. طيب، سأخبركم ما سيحدث: نحن في الغالب لن يكون لدينا أتاتورك عربي رغم الحاجة إليه، لكنها فرصة للتفكر في طريقة غير تقليدية.. ألا تتفقون معي؟

 

Email