ثورات تفتقر للمنهج

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتجه بعض الدول العربية والغربية إلى دعم التغيير في بعض الدول العربية، بحجة أن هذه الأخيرة غير ديمقراطية ومستبدة، ونظامها يدخل في دائرة الأنظمة الفاسدة، وأنها تحكم شعوبها دون شرعية.

كلام منطقي جدا، فلا يجب الإبقاء على الأنظمة الفاسدة، ولا المستبدة، ولا غير الديمقراطية. والكل متفق على هذا الرأي. ثم إنه لم يعد مجرد رأي، ولكن واجب يتطلب العمل على التغيير، شاء النظام أم لم يشأ.

لا يختلف اثنان، ولا حتى تلك الدول العربية والغربية التي تقود معركة التغيير في الوطن العربي، على أن معظم الأنظمة العربية الحالية لا تستند إلى انتخابات شرعية. وبالتالي، يتوجب على الدول العربية التي تدعم ثوار التغيير في الوطن العربي، أن تقوم بتغيير كل الأنظمة غير الديمقراطية في العالم العربي، بما فيها أنظمتها الداخلية.

وعلى الدول الغربية (الديمقراطية) أيضا، أن تفعل نفس الشيء بالنسبة للعالم أجمع. وقبل كل شيء أن تعيد هذه الأخيرة النظر في الممارسات غير الديمقراطية والفاسدة، التي تمارسها مع الشعوب الضعيفة، وأن تتصرف بنزاهة، بدءا من استغلال مواردها النفطية إلى إثارة البلبلة في قلب الثورات، لجعلها ثورات لا تصل إلى غاية..

ومن إخافة بعض الدول الآمنة من البعبع القادم من المريخ، وابتزازها لأهداف سياسية أو اقتصادية قريبة او بعيدة المدى. وهذه السياسة تمتد منذ عقود طويلة، ودرت على الشركات ومصانع الأسلحة الغربية مليارات مليارات الدولارات. بمعنى آخر، وكما يقول المثل، لا ترمي بيوت الآخرين بحجر، عندما يكون بيتك مصنوعا من الزجاج، وخيركم من بدأ بنفسه..

نسبة كبيرة من الشعوب العربية أصبحت مطلعة على ما يحدث، وبدأت تقرأ كما لم تقرأ من قبل، وأصبحت ترى وتسمع وتقرر، وأصبحت تتطلع إلى الديمقراطية الغربية، على أساس أنها الديمقراطية الأمثل مع بعض التحفظات الهامشية، وأنها لم تعد تحتمل التلاعب بمصيرها ومصير الأجيال القادمة، وأنه كفى الحكم بغير الخيار الديمقراطي، ولا بد من الثورة المسلحة إن لم يخرج المستبد طوعا.

ولا يختلف اثنان على أنه يحق للعربي أن يطالب بحقوقه، بعدما انتهى زمن الحاكم المطلق. لكننا نختلف، والاختلاف للنقاش لا يفسد للود قضية، كما يقال. والاختلاف في الرأي يعتبر من أولويات الديمقراطية التي ننادي بها، إن كنا فعلا مؤمنين بتطبيقها. وأول هذه الاختلافات، هو أن الثورات العربية بدأت بشكل خاطئ. الخروج للشوارع من دون مقدمات بغرض قلب النظام الفاسد، في حد ذاته جائز.

ولكن العملية خارج إطار تلك المظاهرة خاطئة. حتى عندما قامت الثورة الفرنسية، فإنها لم تقم فجأة ودون مقدمات أو تنظيم. فقد كان هناك ثوار منظمون غاية التنظيم، وهناك قادة لها، وهناك من يعملون تحت إمرة هؤلاء القادة، وهناك مخططون وعيون تتبع أخبار القصر... إلخ. ولم تقم الثورة الفرنسية إلا بعد أن توفرت لها عناصر اندلاعها، وذلك كله حدث في القرن الثامن عشر! فما بالنا ونحن في القرن الواحد والعشرين؟

الاختلاف الثاني، هو أن الثورات التي قامت في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا هذه الأيام، لم تكن قد هيأت بعد نفسها لما بعد الثورة.. أو حتى في حالة فشل الثورة.. كل شيء وجد فجأة وتحول فجأة وتغير فجأة. لذلك، لم تبدأ الصراعات الداخلية إلا بعد سقوط الحاكم المغضوب عليه، والفرق المشاركة في الثورة وجدت نفسها أمام الاقتتال العربي المزمن حول عقدة: من يحكم؟ وباستثناء تونس، فإن الأوضاع في ليبيا ومصر ما زالت مثار جدل، والأمر قد يطول إلى سنين طويلة قادمة.

ونحن لا نستبعد تأثير تدخلات الدول الغربية الديمقراطية في الشأن الداخلي المصري والليبي، لحاجة في نفس يعقوب نعرفها جميعا. وما حدث في مدرجات كرة القدم في بور سعيد الأسبوع الماضي، والاتهامات التي وجهت إلى عناصر تابعة للنظام السابق، لدليل على أن الثورة لم تنجح بعد.

وما دام المجلس العسكري هو من يمسك بزمام الأمور في مصر، فإننا ما زلنا بعيدين جدا عن إطلاق كلمة نجاح على الثورة التي راح ضحيتها الآلاف من أبناء الشعب المصري. وما دامت الفوضى هي التي تحكم الشارع المصري، فإن الثورة لم تنجح بعد. وما دام المواطن المصري لا يشعر بالأمن، فالثورة لم تكتمل بعد. وما يخيفنا أحيانا هو تذمر المصريين من الوضع الحالي، وتحسرهم على النظام السابق.

الخطأ الأكبر يقبع في الشروع في الهدم، دون وضع خطة بناء تالية، ودون وضع البديل، ولا تقييم للخسائر والنتائج التي قد تترتب على عملية الهدم وعلى من حولها. وما حدث في مصر وفي ليبيا وفي تونس، هو ذات الخطأ. واليوم يقوم بعض الدول العربية والغربية بالتخطيط لإطاحة النظام السوري، بحجة حماية المواطنين السوريين، دون أن نعرف ما هو المخطط الموضوع لما بعد سقوط النظام الذي يبدو أنه أوشك على السقوط. من هم البدلاء؟

وعلى أي نظام وبأي منهج سوف يتم حكم بلد بحجم سوريا تعيش على أراضيه الواسعة مئات الطوائف والمعتقدات؟ المعارضة الحالية التي تقود الثوار في سوريا، هل تمثل كل أطياف الشعب السوري؟ أم أن المسألة هي في الحاجة إلى بديل أيا كان، حتى ولو كان أسوأ من سابقه؟

لا أحد مع الأنظمة البائدة، ولكن لا أحد مع الفوضى. هل ستتحول سوريا بعد سقوط عائلة الأسد، إلى أحداث شغب وفوضى وغياب الأمن كما هو الحال في مصر؟ وكما هو الحال في ليبيا؟ وتظل تدور الدائرة إلى الأبد؟ لا أحد لديه الإجابة.

عندما نضع مشروعا، يجب أن يكون هذا المشروع واضحا للجميع، قائما على منهج مدروس من جميع جوانبه، لا أن نهدم، ثم لا نملك القدرة على البناء..

 

 

Email