إرهاصات صراع طبقي في الغرب

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما مستقبل النظام الرأسمالي في عالم اليوم؟ وما مستقبل العالم نفسه إذا بقي خاضعاً لهذا النظام؟

هذان السؤالان المرتبطان عضوياً ببعضهما، هما اللذان شكلا المحور الأساسي لمناقشات ومداولات ما يطلق عليه "المنبر الاقتصادي العالمي"، ويعرف اختصاراً باسم "مؤتمر دافوس" نسبة إلى المنتجع السويسري الشتوي الذي ينعقد فيه اجتماع المنبر سنوياً.

غالبية العضوية في هذا المنبر، تتكون من أساطين النظام الرأسمالي من رؤساء حكومات ومليارديرات، يجتمعون كل عام لاستعراض حالة الاقتصاد العالمي من الرؤية الرأسمالية الغربية.

مؤتمر هذا العام يختلف عن المؤتمرات السابقة التي ظلت تعقد بانتظام منذ عقد سبعينات القرن الماضي، لأنه انعقد في ظل أزمة اقتصادية عالمية لم يعرف لها مثيل. ورغم أن وطأة الأزمة وتعقيداتها تتمركز في الغرب، إلا أنه أصبح من المؤكد أن تمتد تداعياتها إلى بقية أنحاء العالم.

فماذا جرى في المؤتمر؟ وكيف انعكست الأزمة العالمية على مداولاته؟

المؤتمر اختتم قبل أيام قلائل، بعد أن حظي بتغطيات مكثفة وتحليلات لا حصر لها في كل الوسائل الإعلامية الغربية. ولعل التحليل الذي نشرته صحيفة "الغارديان" اللندنية، يعتبر أفضل التحليلات من حيث الموضوعية والمصداقية والنفاذ إلى جوهر الأمر.

يقول تحليل "الغارديان" إن المؤتمر انعقد، وقد استقر لدى غالبية الحاضرين إقرار بأن اقتصاد العالم يعاني اليوم مرضاً خطيراً. ولمزيد من التوضيح، يذكرنا التحليل بأنه على مدى السنوات الأربع الأخيرة منذ عام 2008، يتكون المشهد العالمي الراهن من ظاهرة بطالة متصاعدة وكاسحة، وتقشف وأزمة ديون تتخللها تحركات احتجاجية عارمة في أوروبا والولايات المتحدة.

ومع ذلك لا توجد لدى الطبقة الحاكمة في دول الغرب، خطة استراتيجية شاملة للخلاص، أو حتى مجرد رغبة لدى الشرائح الأرستقراطية لوضع مثل هذه الخطة على نحو جماعي؛ فهذه الشرائح هي المستفيد من الأزمة.

ظاهرياً تبدو الأزمة وكأنها حدث عارض يمكن أن يعالج بإجراءات بيروقراطية، لكنها في حقيقة الأمر خلل بنيوي يعكس المعنى الجوهري لفلسفة اقتصاد السوق الحر. ومهما ابتدع المدافعون عن هذه الفلسفة من حجج تنظيرية، فإن التطبيق العملي يدحض هذه الحجج على أرض الواقع، ليكشف أن المبدأ الأساسي لنظام اقتصاد السوق الحر الذي لا محيد عنه، هو "تعظيم الربح لأقصى حد، مع تقليص التكلفة لأدنى حد".

وجذر الأزمة يتمثل، إذن، في أنه تطبيقاً لهذا المبدأ الثابت تحولت اقتصادات الدول الرأسمالية، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة، من اقتصاد الإنتاج إلى اقتصاد البورصات والمضاربات، لأنه يضاعف الأرباح على نحو سهل. على هذا النحو انهارت البنوك الكبرى أو اندفعت إلى حافة الإفلاس.

هكذا بدأت الأزمة.. ومع استمرار تداعياتها المتفاقمة، عمدت السلطات الحاكمة في دول الغرب إلى اتخاذ إجراءات، مفادها أن تتحمل الطبقة العاملة العريضة عبء التصحيح.. وفي مقدمة هذه الإجراءات، فرض حالة من التقشف بتسريح أعداد ضخمة من العمال، وخفض الأجور ومعاشات التقاعد. للمرة الأولى، دعي إلى مؤتمر دافوس ممثلون عن الحركة النقابية العالمية..

في مسعى لإضفاء مصداقية على المؤتمر. ويقول تحليل "الغارديان" إن غالبية الحضور في دافوس، لم يكونوا يرغبون أن يسمعوا من ممثلي الحركة النقابية، تحذيراً بأن الرأسمالية سوف تأكل نفسها إذا أصبح العمال عاجزين عن شراء المنتجات التي ينتجها أصحاب المصانع، وإذا سمح للا مساواة أن تبقى دون ضبط، وأن يبقى نحو 200 مليون عاطل في دول الغرب، وأن يجبر دافعو الضرائب على دفع ثمن آثام البنوك عن طريق برامج تقشف شاملة.

على هذه الوتيرة ارتفعت أصوات صريحة وشُجاعة داخل المؤتمر. فقد قال أحد القادة النقابيين الأوروبيين: "نعتقد أن قادة المنبر الاقتصادي العالمي، يسعون فقط إلى تنفيذ أنظمة جديدة لتعظيم أرباحهم إلى الحد الأقصى، لا لمساعدة العالم".

هؤلاء القادة أرادوا في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية، أن يبتدع المؤتمر جانباً إنسانياً للنظام الرأسمالي على أسس المساواة المعيشية في المجتمع، أي تتولى الشركات الكبرى متعددة الجنسية، اختياراً وطوعاً، تحمل مسؤولية اجتماعية، إلى جانب شهوة الربح.

لكن مثل هذا التحول لا يتحقق طوعاً بالمراهنة على افتراض وهمي، بأن المؤسسات الرأسمالية تتصرف من وحي ضمير حي. والمشهد الذي نراه الآن في أوروبا والولايات المتحدة، لا ينبئ إلا بإرهاصات صراع طبقي.. ولننتظر لنرى.

 

Email