الأوضاع العربية الراهنة والرؤية المستقبلية

ت + ت - الحجم الطبيعي

مر عام ونيف على موجة غير عادية من الأحداث التي تجتاح العالم العربي، وتهدف إلى تغيير النظام السياسي في الشرق الأوسط، وقد اشتعلت شرارتها الأولى عندما أحرق الشاب محمد البوعزيزي نفسه، في 17 ديسمبر 2011 في مدينة سيدي بوزيد التونسية، فانطلق بعدها جيل من الشباب التونسي المهمش، للمطالبة بالحرية السياسية والفرص الاقتصادية. وفوق كل هذا، أذكى ذلك الشعور بالكرامة الإنسانية.

لقد كان لوفاة البوعزيزي صدى واسع وسط الشباب التونسي، الذين يعانون يأسا مماثلا من وضعهم الاقتصادي وعدم توفر فرص لمستقبل أفضل لهم. وفي ظل الثورة التكنولوجية، ووسائل الإعلام الجديدة ومواقع الشبكات الاجتماعية، تمكن الناشطون والمدونون من الانتشار والوصول إلى قطاعات شعبية أوسع.

 ووسعت دائرة النشاط التدريجي للاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، من مطالب المحتجين بالتوظيف وتحسين الأحوال المعيشية، لتشمل التصدي للفساد وإطلاق مزيد من الحريات السياسية. وشارك مواطنون في تظاهرات كبيرة، أنهت حكم الرئيس بن علي في تونس. وعلى إثر ذلك اندلعت المظاهرات في مصر، وأدت لتنحى مبارك عن الرئاسة، وانفجرت الاوضاع في ليبيا لتؤدي لمقتل القذافي.

وقد دفع تحول الأحداث، العديد من القوى إلى تعبئة المواطنين ضد الأنظمة في منطقة الشرق الأوسط. وساهم الرجال والنساء من جميع الطبقات، وفي مقدمتهم الشباب، ومن خلفيات ومستويات تعليمية مختلفة، في المطالبات السلمية من أجل التغيير.

وأصبحت لهذه التطورات آثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على النظام الإقليمي، الذي دام لعقود يفضل أولويات الأمن، على توسيع الديمقراطية والرغبات المتزايدة في المشاركة الشعبية.

وانتشرت العدوى السياسية في معظم أنحاء العالم العربي، على الرغم من أن التحرك أقوى في البلدان محدودة العائدات المالية، بفعل الإحباط الشعبي، وارتفاع التضخم ومعدلات البطالة ومستويات الفقر، التي يسبب جميعها مشقة كبيرة ومشاعر معارضة للحكومات، تؤدي في النهاية إلى اندلاع الاحتجاجات السياسية الواسعة. هذه العوامل ضغطت بشدة على الفئة المتوسطة ومنخفضة الدخل، والتي شكلت جوهر موجة التعبئة الاحتجاجية في العالم العربي.

وتستند القيادة في معظم الدول العربية، على أنماط حكم طال أمدها وأصبحت بحاجة لإصلاحات واسعة، ويمكن ملاحظة أنه في الآونة الأخيرة فإن الغليان الذي كان يحدث بتكتم، طفا على السطح في العديد من الدول العربية.

وفي ما يتعلق بدول المنطقة، فإنها مطالبة أولا؛ بالإصلاح السياسي، وثانيا؛ بإيلاء الأجيال الشابة اهتماما أكبر في التعليم الحديث وفرص العمل، وثالثا؛ مكافحة الفساد.

والمنطقة في الواقع تمر بتحد في عدد من الدول العربية التي تأثرت بالثورات، كتونس ومصر وليبيا، وبعضها الآخر ينذر بالسير في اتجاهات معقدة. وعلى الرغم من أن كل حالة مختلفة عن الأخرى، فإن العلاقة الأساسية التي تربط بينها جميعا، هي المطالبة بالحكم الرشيد واحترام سيادة القانون.

فهولاء الذين يزعمون أن العالم العربي ليس في حالة تحدٍّ كبير، يتجنبون الواقعية، إذ يمكن لأحداث صغيرة أن تفجر أزمة في المنطقة كلها. وما لم تتم معالجة قضايا الإصلاح في كل الدول، بما فيها اليمن وسوريا وغيرهما، والتصدي لها بسرعة، فإن العالم العربي سيعاني المزيد من الأزمات في المستقبل. هذا هو الدرس الأهم الذي يجب أن يتعلمه العالم العربي والمجتمع الدولي، من الأحداث الأخيرة في العديد من البلدان العربية.

وفي طليعة الاتجاهات التي تسعى إلى التغيير في منطقة الشرق الأوسط، جيل جديد من الشباب العربي يتحدى السياسة التقليدية، ويؤكد قدرته على الخروج في تظاهرات سلمية. ومن خلال الاستعمال المكثف للوسائل التكنولوجية الجديدة، بما في ذلك الإعلام الاجتماعي، استطاع الشباب خلق أشكال جديدة من التعبيرات المدنية. وبذلك، فقد دخل الشباب تحديا غير مسبوق في المنطقة.

إن العالم العربي يشهد تحولا تاريخيا، وينظر إلى وسائل الإعلام على أن لها دورا في هذا التحول، فوسائل الإعلام الاجتماعية ونشر الأخبار بالطرق الحديثة، قد حولت الإعلام إلى قوة من أجل التغيير وحرية التعبير. لقد اندلعت التظاهرات بسبب المعاناة الاقتصادية وارتفاع الأسعار، ولكن من الخطأ الاعتقاد بأن الأزمة كانت اقتصادية فقط، فالأزمة الاقتصادية وحدها لم تدفع الشعوب إلى الشوارع، حيث كانت الانتفاضات من أجل الحكم الرشيد والاقتصاد بالقدر نفسه.

العديد من الدول العربية متخمة بالمشاكل والمصاعب، وخلال الانتفاضات تكلفت هذه الدول خسائر بالمليارات، وحل هذه المشاكل ليس سهلاً كما يظن البعض ويربط كل شيء برحيل النظام. هذا منحى سهل للتفكير ومغرٍ إلى حد كبير، ولكنه مضلل، فحين يسقط النظام ستنكشف تعقيدات المشهد.. هذا هو الواقع المر الذي سيواجهه الجميع.

لقد وضعت انتفاضات الشعوب الأخيرة في تونس ومصر وليبيا، أسسا للتحول الجديد لهذه البلدان نحو الديمقراطية، ويمكن أن يلحق بها عدد من الدول العربية الأخرى، كما يمكن أن يخططوا لمستقبلهم بشكل حر، إلا أنه من المهم التطلع إلى الأمام وعدم إهدار جهد كبير بشأن الماضي، كما يجب إدراك أن من بين العوامل التي ساهمت في التطورات العربية الراهنة، خيبة الأمل حيال ما يمكن أن تفعله أو ستفعله القوى التقليدية.

وفي الواقع، إن خروج المجتمعات العربية إلى الشوارع لإحداث التحولات المنشودة، يحمل آثارا بعيدة المدى على المنطقة وخارجها. فهل يمكن للولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى، التوفيق بين مصالحها الوطنية ومصالح شعوب المنطقة؟ كيف سيكون ظهور شرق أوسط ديمقراطي ومستقل في نظر العالم؟ وهل ستعني المشاكل الاقتصادية في الغرب أن العالم العربي سوف يتجه شرقا لإقامة شراكات بديلة؟ إن تحول ميزان القوى والديناميكية السياسية الأخيرة في الشرق الأوسط، سوف تنقل عملية الإصلاح والديمقراطية وكذلك عملية السلام، إلى مستويات جديدة من الدعوة إلى قيام الدولة الفلسطينية، والموقف العام سيتطلب جيلا جديدا من القادة الذين يمكنهم تصور حلول بديلة. فهل تمتلك القوى الشابة الرؤية الثاقبة للمستقبل، محليا وإقليميا ودوليا؟

Email