ثورة مصر و«الإنفلتريشن» الغربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

أكثر ما يشد الانتباه في الثلاثمائة وخمسة وستين يوماً من الثورة المصرية الثانية، هو الموقف الوطني الرافض للتدخلات الأجنبية في بلاده.

وهو موقف نتمنى أن يكون حقيقيا ومستمرا، فنجاح ثورة المصريين لن يطول إذا غفلوا لحظة واحدة عن المكائد التي تحاك ضد ثورتهم في الخارج على أيدي المخابرات الغربية والإسرائيلية، لأنه لا يوجد خطر على أمة من الأمم وفي جميع ظروفها الساكنة أو المتحركة، أكبر مما يطلق عليه الفرنسيون مصطلح الـ(infilitration).

وهو معنى أكثر تعبيرا ودقة عما يحدث من مصطلح التغلغل والتسرب. ويعتبر هذا التصرف إلى غاية هذا التاريخ، تخصصا غربيا من الدرجة الأولى، وهو تصرف أو سلوك أو عمل يحظره القانون الدولي. وللأسف تقوم بممارسته دول نعترف جميعا بأنها متقدمة علميا على دولنا، وربما نتفق جميعا على أنها في الوقت نفسه متقهقرة أخلاقيا.

مصر الدولة الغنية بنيلها وحضارتها وشعبها، تحولت نوعا ما إلى دولة فقيرة ماديا، بسبب الحروب الخاسرة والعديدة التي خاضتها مع إسرائيل، وظلت على مدى عقود من الزمن، وبالخصوص بعد اتفاقية كامب ديفيد، تمد يدها طلبا للعون المادي الخارجي، الذي ظلت تتقبله في ظل النظام السابق وكأنه صدقة جارية، تدخل تحت بند اتفاقيات السلام.

ومن ثم تودع في جيوب خاصة. وهذه الأموال "السامة" التي تقدم إلى مصر، لم تمنح مجانا. وكما نعيد ونكرر دائما في مقالاتنا، فإن الغرب لا يعطي مليما واحدا دون أن يضمن أن هناك عشرة دولارات سوف يحصدها في المقابل. وأحيانا يكون الثمن باهظا جدا، يصل إلى حد تركيع الدول الممنوحة.

كان المصريون يعلمون ذلك ولا يجرؤون على التصريح به، لأنه أمر يتعلق برئيس الجمهورية وأمن الدولة. وكان المصريون مدركين لأن تلك الأموال لا يستفيد منها المواطن المصري، إلا كما يستفيد من رائحة اللحمة دون القدرة على شرائها.

وظلت الأموال الخارجية بملايين الدولارات، تدخل عبر طرق سرية ومنظمات ومكاتب وهيئات غربية، لأغراض الكل يعرفها، وهي إبقاء مصر بأهميتها الجغرافية والاقتصادية، تستجدي الدولارات الأميركية من خلال نظام لم يخرج عن إطار ما يحيط به، وهي بالتالي أموال تشبه العصا التي توضع في الدولاب لمنع تقدمه واستقلاله. وهكذا بقيت مصر منذ ذلك الوقت خاضعة للخوف من قطع تلك المساعدات، فيما لو لم توافق على تنفيذ شروط الغرب.

وكانت الأهداف عديدة خلف سياسة إطعام النظام السابق ودعمه، ومن هذه الأهداف إبقاء مصر ضعيفة محتاجة، وبالتالي جعلها آلة استهلاكية لمنتجات الغرب الرخيصة. ومن أهدافها أيضا تحويل مصر إلى حاجز خرساني، يفصل شرق المتوسط عن غربه وشماله عن جنوبه، ويمنع بالتالي أي فكرة وحدة أو اندماج أو شن حرب.

غير أنه كان من أهم أهداف الغرب في احتواء وإضعاف مصر، هو سحب البساط من تحت قدميها. وتحقق لها ذلك بفضل تلك المساعدات السرية والمعلنة، التي تتلقاها من عدة جهات ومنظمات مشبوهة. وبعد أن كانت مصر في زمن عبد الناصر تحرك العالم العربي بكلمة واحدة، أصبحت اليوم بعيدة كل البعد عن شؤون الأمة العربية، ولم يعد لها دور أو تأثير كما كانت في اتخاذ القرارات العربية، وبالطبع ضعف معها مجلس الجامعة العربية ودفن حيا. ولم يعد الحكام العرب بعد اتفاقية كامب ديفيد، يهابون موقف رئيس مصر.

ولو كان عبد الناصر حيا لما احتلت بغداد الكويت. بمعنى آخر، سحبت السياسة الغربية من تحت قدمي مصر سيادة أو بساط قيادة وزعامة البلدان العربية، بل والإسلامية. وبالتالي ضمن الغرب من بين أهدافه الأخرى، أمن الدولة العبرية وسلامتها ونجاح استمرار عملية الاستيطان وسرقة ما تبقى من الأراضي الفلسطينية في وضح النهار، على مرأى من الدول والحكومات العربية.

وبالخصوص النظام المصري السابق الذي ساعد إسرائيل كثيرا على خنق قطاع غزة، لولا رحمة الله. فلا توجد دولة عربية أخرى غير مصر قادرة ـ بفضل إمكاناتها البشرية والعسكرية - على شن حرب ضد إسرائيل. وإضعاف مصر وتقييدها ووضعها تحت الإقامة الجبرية، تعني ضمان أمن الدولة الصهيونية التي ما عاد لها من أمان بعد الأحداث الأخيرة على خارطة الوطن العربي.

هذه الأحداث ـ وهي في حقيقة الأمر ليست مجرد أحداث وإنما سنة الدول التي لا تسير على خط مستقيم ومنتظم وواضح ـ كشفت العديد من الأسرار والألاعيب والدسائس والتدخلات الخارجية، التي كانت تجري خلف الستار والتي كان محركها الأساسي دول عظمى كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. وهذه الاعترافات لم تأت من أعداء النظام السابق، بل من تهديدات من داخل بيت ذلك النظام، وتحديدا من قبل زوجة الرئيس المصري السابق سوزان مبارك "بنشر الأسرار الخفية للمصالح الأميركية في مصر".

والأغرب من ذلك، أن هذه الدول استمرت في محاولة استخدام نفس تلك الرشاوى مع ثوار الربيع العربي! وكادت تنجح، لولا أن الغيورين على كرامة مصر وتحررها من الفساد الغربي، تنبهوا للمؤامرة وأوقفوها في الوقت المناسب.

مصر اليوم في وضع آخر، والثورة لم تنته بعد رغم الشكليات التي أعلن عنها، والخطر الغربي على استقلالية هذه الثورات ما زال قائما. فالمؤشرات الأولى لهذه الثورات لم ترق كثيرا للدول الصناعية، ابتداء من نجاح الإسلاميين في الوصول إلى السلطة، إلى الدعوة لمقاطعة إسرائيل، إلى الاتجاه إلى الشفافية...

وقبل أيام أوردت "سي أن أن" أخبارا تسير في هذا المنحى، عندما "منعت السلطات المصرية خمسة أجانب على الأقل بينهم نجل وزير النقل الأميركي، راي لاهود، من مغادرة البلاد، إثر اتهامهم بإدارة منظمة غير حكومية وغير شرعية". ويبدو أن هناك عدة منظمات غربية أخرى تعمل في هذا الصدد:

احتواء الثورات العربية بالرشاوى. إذا كان الغرب يتطلع فعلا إلى ديمقراطية شفافة في البلدان العربية، فيجب عليه عدم التورط في شؤونهم الداخلية، فأهل مكة أدرى بشعابها. ونسأل الغرب المتحضر بدورنا، هل يسمح للمنظمات العربية والإسلامية بالتدخل في شؤونهم الداخلية بواسطة منظمات مشبوهة؟

Email