بوصلة الزمن الفلسطيني القادم

ت + ت - الحجم الطبيعي

فيما يتركز العقل السياسي الفلسطيني عموماً على ما يجري من عمليات استقطاب وتحولات على صعيد الأراضي المحتلة منذ عام 1967، وعلى اتجاهات التعامل سلماً أم عنفاً، مفاوضة أم مقاومة، لتحقيق هدف العودة، وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، تنشأ في الداخل الإسرائيلي معطيات تشير إلى إمكانية تحول الأنظار والتركيز نحو أوضاع مليون ونصف المليون فلسطيني من مواطني دولة إسرائيل.

قبل اندلاع الانتفاضة الشعبية السلمية الكبرى في الأراضي المحتلة عام 1987، ومنذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة ابتداءً بفتح مطلع 1965، ثم بانفجارها على نطاق واسع بعد هزيمة حرب يونيو 1967، كان من الطبيعي أن يتحمل الشتات الفلسطيني في مواقع تركزه؛ الأردن ولبنان وسوريا، العبء الأكبر من النضال ضد الاحتلال، وأن يكون مركز القرار في الخارج حيث تكون قيادات الشعب الفلسطيني.

خلال تلك المرحلة، خضع الفلسطينيون داخل الأراضي المحتلة عام 1967، إلى إجراءات أمنية وقمعية ومخططات إسرائيلية قاسية، استهدفت إخضاع السكان، وضرب البدايات الأولى للعمل السياسي والحزبي والنضالي، وعزل أهل الداخل عن ثورتهم المسلحة في الخارج، أما فلسطينيو عام 1948، فقد جرى تهميشهم وتجاهل دورهم النضالي، حتى من قبل القيادات الفلسطينية التي توهمت أنهم اندمجوا في إسرائيل ولم يعودوا على صلة بالأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني.

إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان بعد حصارها العاصمة بيروت عام 1982، وخروج القيادة والمقاتلين الفلسطينيين إلى المنافي، وما تبع ذلك من تصدعات وأزمات عاشتها حركة فتح، ومنظمة التحرير الفلسطينية، نشأت أوضاع غاية في الصعوبة بالنسبة للثورة الفلسطينية، وكادت القمة العربية في عمان عام 1987، أن تشطب تمثيل المنظمة فيها.

الانتفاضة الشعبية الكبرى التي اندلعت في الأراضي المحتلة عام 1987، شكلت حبل الإنقاذ للمنظمة، بل وضخت في عروقها دماء جديدة قوية. وبعد أشهر قليلة من القمة العربية، استعادت معها المنظمة وبقوة، دورها وحضورها على الصعيدين العربي والدولي، لكن مركز اتخاذ القرار الفلسطيني وآلياته، لم تنتقل إلى الداخل، حيث تكاد في حينه تكون ساحة الفعل النضالي الوحيدة ضد الاحتلال.

ولكن خلال المرحلة التي سبقت اندلاع الانتفاضة، كان الاحتلال رغماً عنه قد وفر لكل فلسطينيي الداخل، فرصة موضوعية للتفاعل وتبادل الدعم والتضامن، وإقامة جسور قوية من العلاقة التي أسست للمرحلة التي تلتها، حيث توحد الفلسطينيون على الأهداف التي وضعتها منظمة التحرير، ورسختها الانتفاضة الشعبية التي لاقت دعماً كبيراً من التجمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948.

ومع تبدل الظروف بفعل توقيع اتفاقيات أوسلو، وقيام السلطة الوطنية على الأراضي المحتلة عام 1967، وانتقال معظم قيادات وكوادر منظمة التحرير الفلسطينية إلى الداخل، انتقل مركز القرار، ومركز النضال الوطني الفلسطيني، إلى الأرض المحتلة. ومنذ ذلك الحين، جرى تهميش دور الشتات الفلسطيني بكل أبعاده، سواء ما يتصل بالعمل الحزبي أو السياسي أو الجماهيري، أو حتى ما يتصل بالحقوق.

إلى حد كبير، ينتقل موقع القرار والفعل الفلسطيني تبعاً لعوامل من أهمها؛ الساحة التي يتركز عليها الفعل الاحتلالي والعدواني الإسرائيلي، فضلاً عن موقع تواجد القيادات الفلسطينية الأساسية. في هذه الفترة يتوزع الفعل الاحتلالي الإسرائيلي على منطقتين، الأولى هي التي لا تزال تشكل ساحة الصراع الرئيسية.

وهي الضفة الغربية والقدس، أما الثانية فهي الأراضي المحتلة منذ عام 1948، حيث يتنامى الوجود والفعل الفلسطيني المقاوم، بالتوازي مع تنامي العنصرية الإسرائيلية والتمييز القومي على المستويين الرسمي والشعبي، وعلى المستويين الديني والاجتماعي، بما في ذلك بين أوساط اليهود أنفسهم. الممارسات العدوانية الاحتلالية، تتركز في الأرض المحتلة منذ عام 1967 على سياسة توسيع وتهويد القدس، وعزلها عن محيطها الفلسطيني، ومصادرة الأراضي، وتوسيع وتكثيف الاستيطان في الضفة، وتحويلها إلى معازل.

أما داخل إسرائيل فتتصاعد السياسات الإسرائيلية العنصرية، على المستويين التشريعي القانوني والعملي، لنزع ملكيات الفلسطينيين لأراضيهم، وتهميش القرى والمدن الفلسطينية وقمع الحريات، والاعتداء على المساجد ودور العبادة، وأخيراً تتصاعد حملات المطالبة بتهجير الفلسطينيين بصورة جماعية، تلوح أولى مؤشراتها في منطقة النقب. وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، أدلى بتصريح مؤخراً، يتوقع فيه عمليات تهجير جماعي للفلسطينيين في الأرض المحتلة منذ عام 1948.

لكنه ربط ذلك باحتمال التوصل إلى تسوية تشمل تبادل أراض. على أن ثائرة الفلسطينيين قد ثارت مؤخراً على مشروع قانون "برامز" للتطهير العرقي، والذي اعتبره عضو الكنيست طلب الصانع، على أنه بمثابة نكبة جديدة، يتوقع محمد زيدان عضو لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية، أن تؤدي إلى "يوم أرض" آخر.

الحديث عن احتمال اندلاع يوم أرض آخر، يذكر بالهبة الشعبية لحماية الأرض التي وقعت في الثلاثين من مارس عام 1976، ولا يزال الشعب الفلسطيني يحيي ذكراها كل عام. هذا الحديث يعني انتفاضة شعبية فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1948، ضد التمييز العنصري ومصادرة الأراضي، والهوية الفلسطينية، وضد التهجير الجماعي، وسياسة هدم البيوت.

والحال أنه في ظل تهميش دور الشتات، وفشل خيار التسوية وعجز خيار المقاومة بمعناها الحصري الذي يتصل بالعنف، فإن مركز الفعل الوطني، والقيادي إلى حد ما، قد ينتقل إلى الأراضي المحتلة منذ عام 1967، الأمر الذي يعيد الصراع إلى بداياته وجوهره، بما أنه صراع وجود، وليس صراع حدود.

انتقال مركز الفعل الاحتلالي الرئيسي، ومركز الفعل الوطني الفلسطيني إلى داخل إسرائيل، قد لا يعني بالضرورة خمود الفعل النضالي في الضفة، أو نقل مركز القرار الفلسطيني الوطني إلى هناك، بل إن ذلك سيؤدي إلى تأجيج الصراع بما يشمل كل أرض فلسطين التاريخية، ما يعني توحيد الفعل الوطني الفلسطيني لاستنهاض طاقة نحو خمسة ملايين ونصف المليون من الفلسطينيين الذين يعيشون على أرض فلسطين. وفي ظل الربيع العربي.

فإن من المتوقع أن تتيح التغييرات الجارية لفلسطينيي الشتات في بعض البلدان العربية المحيطة بفلسطين، إن لم يكن جميعها، لتفعيل دورهم في النضال ضد الاحتلال الذي يؤكد كل يوم تمسكه بأطماعه التوسعية على كل الأرض الفلسطينية.

 

Email