المؤامرة.. سياسة مستمرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا نتفق مع من يدعي أن من يتمسك بنظرية "المؤامرة"، إنما هو واهم أو متخلف ويبحث عن شماعة يعلق عليها فشله. ولا نؤيد من يحاول طمس هذه الفكرة (والتي أطلق عليها البعض نظرية، بدلا من سياسة)، لأن النظرية قابلة للخطأ، والسياسة اتجاه وخطة محكمة تقوم على دراسة مسبقة. ولا يوجد خطأ بتاتاً في أن المسلمين (كعقيدة) وليس العرب (كلغة) في شتى أنحاء العالم، عرضة لمخططات تدميرية مختلفة، بغرض طمس معالمهم التاريخية والجغرافية والعقائدية بالدرجة الأولى.

ومن يعتقد أن اليهود هم وحدهم سبب البلاء الذي فت من عضد الأمة الإسلامية، فهو أيضا واهم. فاليهود كان لهم هدف واحد: وهو تأسيس دولتهم المنتظرة التي توحدهم بعد الشتات في أرض الميعاد، وهي فلسطين. وكما نعرف فإن ما بين المسلمين واليهود عدة قواسم مشتركة، تبدأ من الأصول العرقية إلى العقيدة.

ولا أحد يختلف على أنهم أبناء عمومتنا، وأنهم عاشوا بين المسلمين وتعاملوا معهم منذ ما قبل الإسلام. ولم يحاول نبينا محمد عليه الصلاة والسلام القضاء عليهم رغم مكرهم وخداعهم ونفاقهم، لأنه كان يدرك أنهم لا يشكلون خطرا على توسع الإسلام وعلى مستقبله، وإنما هذه طباعهم التي طبعوا عليها. وكانوا أقل عددا وأضعف عدة من أن يواجهوا قوة بحجم دولة الإسلام، وما زالوا.

إذن، من أين يأتي الخطر والمؤامرة على المسلمين؟

الجواب أبسط من عبارة "صباح الخير" كما يقول الفرنسيون، فإجابته موجودة في موقع يقع في بلادهم، قرب مدينة بواتييه الحالية في فرنسا، حين وصل جيش المسلمين قادما من إسبانيا بهدف تمدد جديد في أوروبا انطلاقا من إسبانيا.

وهناك وقعت موقعة بلاط الشهداء عام 732 ميلادية، وانهزم فيها المسلمون شر هزيمة. وبعدها توقف الزحف الإسلامي، ونجت أوروبا من انتشار دين أحمد عليه السلام. وما زال الغرب يتذكر هذه النقطة الفاصلة في تاريخهم، ويدركون جيدا أنه لو نجح المسلمون في تلك المعركة لأصبحت أوروبا من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، تدين بدين الإسلام. ومنذ تلك اللحظة والغرب يعيش حالة الذعر تلك، وحالة الهلع التي تأصلت في ذهنه، رغم أن التحضر العلمي والثقافي الذي شهدته وتشهده أوروبا، وهذا بشهادتهم، إنما يعود فضله وأساسه إلى العرب الفاتحين.

ومنذ تلك اللحظة وحتى يومنا هذا، ظلت عقدة الأوروبي من لدغة الثعبان تلك سببا في شكه في كل جحر يتراءى أمامه، وتطور الشعور والقلق من دفاع عن النفس إلى هجوم وقائي. وفيما يبدو ـ وهو ليس مجرد تخوف المسلمين من فكرة المؤامرة لدى الأوروبيين ـ قرر الأوروبيون على مستوى الساسة والقادة والمستشارين، وضع حد أبدي لأي اكتساح إسلامي لحدودهم الجغرافية والاستراتيجية.

وعرف عن الإسلام أنه ما فتح أرضا إلا وتبعه ـ في معظم الأحيان ـ تحول أهالي تلك الأرض إلى مسلمين، طواعية وليس إكراها كما يدعي البعض. وما يؤيد تخوف الأوروبيين بالذات، هو الازدياد المطرد للمسلمين في أوروبا، إضافة إلى انعدام ثقة الغربي ـ بسبب سياسة قادته المادية ـ بديمقراطيته وحضارته المادية، المبنية على دماء المستعمرات. ويختلف الأوروبي عن العربي بأنه إنسان قارئ ومثقف ومطلع على دقائق الأمور، ولم يعد ذلك الإنسان الساذج الذي يصدق ما يحكى له.

وليس أدل على ذلك مما حدث من شجب ورفض للتدخل الأميركي في أفغانستان والعراق، وتدخل فرنسا العسكري في ليبيا، ولممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين. عندما كشف زيف تلك التظاهرة الإنسانية لتحرير الشعب الليبي من القذافي، وعندما اكتشف أن الغرب تعامل مع القذافي وأمده بالسلاح الذي كان يستهدف به مواطنيه، وأن تدخل بعض دول أوروبا في ليبيا إنما جاء طمعا في النفط وليس حبا للشعب الليبي.. كل ذلك، جعل من السهل على الإنسان الأوروبي ـ وهذه هي الحال ـ أن يلجأ إلى غير دين آبائه.

المؤامرة موجودة على وثائق الغرب منذ زمن قديم، وما إقامة دولة إسرائيل ـ وهذه معلومة عامة ـ في قلب الأمة الإسلامية، إلا مرحلة من مراحل تنفيذ مخططات تمزيق الدولة الإسلامية. مع أنه لا توجد دولة إسلامية بالمعنى القديم للمصطلح، وإنما دول إسلامية مبعثرة هنا وهناك غير متفقة ومتمزقة.

والغريب في الأمر أن اليهود قبلوا أن يتحولوا من شعب قديم له تاريخه العريق، إلى مجرد أداة لتحقيق مآرب الغرب الحديث. وربما لأنهم جاؤوا من هناك، ولأن طموحهم في الحصول على وطن قومي كان أكبر من كرامتهم. ولا يتردد العالم على وصف إسرائيل بكلب حراسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط! ويعلم اليهودي في صميم عقله وبناء على تجاربه التاريخية، أن عدم استقرار الشرق الأوسط يعني أنه هو أيضا لن يكون مستقرا في أرض الميعاد، التي يزعمها. مع ذلك، وافق على دس رأسه في الرمال.

ثم إن المسلمين لم يعرفوا كيف يتعاملون مع اليهود منذ بداية قدومهم، وجروا خلف سيول مشاعرهم، دون اللجوء إلى رجاحة العقل في حل الأزمات.. وما زالوا. واستغل الأوروبيون وأميركا هذه المشاعر لجعل النار مستعرة بين الطرفين، فضربوا عشرين عصفورا بحجر واحد، فتحقق لهم تمزيق الأمة الإسلامية (والمؤامرة مستمرة والمخطط لم ينته بعد رغم الأحداث الأخيرة)، فأمنوا شر المسلمين في أوروبا، وسيطروا على مواردهم بنفس المخطط، وشوهوا سمعة الإسلام والمسلمين حتى أصبح المسلم وحشا يجب التخلص منه، وينظر إليه بارتياب حتى وهو في وطنه!

وساعد ذلك وجود بعض ضعاف النفوس ممن تحركهم أهواؤهم قبل عقولهم، فتحولوا إلى قنابل بشرية مدمرة هادمة، تقتل المسلم قبل الكافر! وكان بإمكانهم أن يتحولوا بدلا من ذلك، إلى عقول وأيدٍ منتجة في مجالات الصناعة المختلفة.

إن إعادة الثقة بين المسلمين في ما بينهم أصبح أمرا صعبا جدا في هذه الظروف، ولا أحد يجرؤ أن ينكر أن الخلافات بين المسلمين على مستوى المذاهب، وعلى مستوى الدول، وعلى مستوى الأفراد، وراءها خطط ومؤامرات ورجال نذروا أنفسهم لأن يدكوا العالم الإسلامي دكا، حتى يصبح غير قادر ليس فقط على غزو أوروبا، بل حتى على الدفاع عن نفسه.

Email