متى كانت آخر مرة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما كنتُ في المدرسة، كنتُ أقول في نفسي إن أسعد أيام عمري ستبدأ بعد تخرجي من الثانوية، حيث لن يفرض أحد عليّ الاستيقاظ مبكراً، وحمل أكوام من الكتب، ثم التوجه إلى الجحيم.. نعم هكذا كانت المدرسة بالنسبة لي. ففي الثمانينات والتسعينات، كانت المدرسة عبارة عن معركة ضربٍ مُبْرِحٍ، من أساتذة لا هم لهم سوى قضاء اليوم في إهانة الطلبة، ولا أكاد أتذكر من اتخذ التعليم منهم رسالة وليس حرباً، إلا ثلة قليلة.

وعندما تخرجتُ من المدرسة ودخلتُ الجامعة، وجدتُ أن الدراسة هناك أثقل عبئاً، فقلتُ لنفسي إنني سأرتاح عندما أتخرج وأعمل. وبعد أن توظفت، لم أذكر أنني عدتُ إلى المنزل قبل المغرب إلا في أيامٍ معدودة، فأيقنتُ بأن المدرسة والجامعة كانتا أرحم بكثير.

وكنتُ قبل أيامٍ واقفاً أنظر في صورة وضعتها زوجتي (هَيَا) في غرفة الجلوس، وقد جَمَعَتْها هي مع أطفالنا سعيد وعمر وعائشة، إلى جانب مجموعة صور أخرى التُقِطَت قبل عدة سنوات، فتفاجأتُ بأنني لم أكن في أي من تلك الصور! يا إلهي، تذكرتُ أنني لم أكن متواجداً مع أسرتي كما ينبغي في تلك الأيام، لأنني كنتُ، ككثير من الرجال "أسعى لتوفير لقمة العيش لهم".

ما أقبح أعذارنا نحن الرجال، نظن أن لقمة العيش الهنيّة هي اللقمة الدّسمة، وننسى أن اللقمة الحقيقية هي التي نتناولها مع من نحب، بغض النظر عن ما تحتويه.

لقد تغيرت حياتي كثيراً في السنوات الثلاث الماضية، وأحد إنجازاتي أنني أستطيع الآن أن أنام وهاتفي على وضع الصامت، بل إنني أنساه أحياناً في إحدى غرف المنزل، دون أن أشعر بالحاجة الماسة إليه، على الرغم من أنني اعتدتُ على كتابة مقالاتي فيه ـ كهذا المقال ـ ثم أنقّحها على الكمبيوتر. لقد حوّلتُ الهاتف من جهازٍ مقتحمٍ للخصوصية الاجتماعية، إلى آلة كاتبة، تمدني بالعفوية والبساطة، تماماً كبقية الأشياء الجميلة في حياتنا.

هل تذكر الآن متى كانت آخر مرة قمتَ فيها بعملٍ عفوي؟ متى شعرت بأنك راض عن حياتك؟ عن وضعك المادي؟ عن شكلك؟ متى كانت آخر مرة لم تربط فيها السعادة بالغد أو بعمل ما؟

يقول بعضنا إنه سيسعد عندما يتزوج، ثم عندما ينتقل إلى بيت جديد، ثم بعد أن ينتهي من مشروع ما، ويظل في تأجيل مستمر، حتى يتفاجأ يوماً وهو واقف أمام المرآة بأن الشعر الأبيض بدأ يغزو رأسه ووجهه، ويدخل ليستحمّ فإذا بالتجاعيد قد بدأت تكسو جسده، ثم إذا نظر إلى تاريخه يجد أنه كان، وما زال، ينتظر شيئاً في المستقبل ليجعله سعيداً!

يغرق الإنسان في عمله كثيرا حتى يصير ذلك العمل عينه التي يبصر بها، وأذنه التي يسمع بها، وإذا سألته: لماذا تقوم بهذا العمل؟ ما هدفك منه؟ وما الذي تريد تحقيقه من خلاله؟ يصمت قليلا، ثم يعطيك الإجابة المعروفة: "لأنني أحبه"!

أتساءل: هل يكفي أن نحب شيئا حتى نستنزف أيامنا وصحتنا من أجله؟ لو كان الأمر كذلك فنحن نحب النوم كثيرا، وخير لنا أن ننام على أن نعمل!

توقف الآن واسأل نفسك، أيا كان عملك، وزيرا كنت أم حارسا لأحد المحلات: هل هناك هدف لما تقوم به غير المال؟ لا تحاول أن تقنع نفسك بإجابة مُرْضية؛ فأسوأ أنواع الكذب هو كذب المرء على نفسه.

متى كانت آخر مرة جلست صامتا لساعة كاملة دون أن تفكر في المستقبل؟ أو في مشكلة ما؟ الصمت رياضة عظيمة، تشحذ الذهن، وتملأ العقل بالحكمة. إنه التدريب الأمثل لتقوية مهارات الروح وبث السكينة في أركانها. سمعت مرة عن رجل صمت ثلاث سنوات متتالية لم يقل فيها كلمة، وعندما سُئِل عن ذلك قال: "كان الكلام يُفْرِغُني من الحكمة، فمارست الصمت حتى يملأني بها".

والصمت أيضاً إحدى بوابات السعادة. متى كانت آخر مرة شعرت فيها بالسعادة المطلقة؟ قد لا تستطيع أن تتذكر، لأننا صنعنا للسعادة شروطا ووضعنا لها استراتيجيات وبرامج، حتى أفرغناها من محتواها.

لقد تمكن المتصوفة القدماء من الوصول إلى مراحل بالغة من السعادة، عن طريق التملص من الماضي، والتخلص من المستقبل. التملص لا يعني الإنكار بل الغفران، والتخلص لا يعني الإلغاء بل النسيان.

يروي ابن عربي حكاية شخص رحل من بلاد إلى أخرى، وفي الطريق قابل أحد العُبّاد الزهّاد، فسأل الرجل ذلك العابد: "أين تريد؟" فقال: "حيث لا أريد".

تمعنتُ في هذه الكلمات لعدة ليالٍ، ثم أدركتُ أن فحوى السعادة ليس التخلص من حاجات الدنيا، فذلك أمرٌ صعب جداً، ولكنه التخلص من الحاجة إلى الحاجة، فهو أرقى درجات التسامح والسعادة.

Email