خريف تونس الإعلامي

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل شهور، كتبنا في هذه الصفحة مقالا تساءلنا فيه عن مصير الإعلام العربي في ظل الربيع العربي، وهل ستفرز الثورات العربية فضاءً إعلاميا جديدا يكون خاليا من التملق والتسبيح والمدح ومن سيطرة السلطة على مخرجات وسائل الإعلام؟

فالتغيرات التي شهدتها الأنظمة العربية في 2011، في كل من تونس ومصر وليبيا، كانت تهدف إلى إقرار الديمقراطية وحرية الفكر والرأي والحكم الرشيد، والاستغلال الأمثل للموارد المادية والبشرية في المجتمع. هذه التطلعات والأهداف لا يمكن أن تتجسد في أرض الواقع، مع غياب منظومة إعلامية قوية تقوم على الاستقصاء والبحث.

والكشف عن التجاوزات والأخطاء واستغلال النفوذ والمال والجاه لتحقيق مصالح الأفراد على حساب مصالح الأمة. فالإعلام الحر هو بارومتر الديمقراطية، والديمقراطية هي السبيل الوحيد لتحقيق آمال وطموحات الشعب.

في الذكرى الأولى للثورة التونسية، فاجأ رئيس الحكومة الجديد حمادي الجبالي الجميع بتعيين شخصيات إعلامية على رأس المؤسسات الإعلامية الحكومية، تولت المسؤولية في عهد نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.

المفاجأة جاءت لكون هذه الشخصيات الإعلامية كانت قد استخدمت كل القوى المتوفرة لديها للتسبيح والمدح و"شرعنة" نظام بن علي. فكيف تكون هناك قطيعة مع الماضي؟ وكيف يترقب الشعب التونسي ربيعا تونسيا بأبواق النظام السابق وبمسؤولين عملوا على تلميع "إنجازات بن علي ونظامه" لعقود من الزمن؟.

التعيينات الجديدة جاءت ونشوة الفرحة والانتصار والتغيير مازالت ظاهرة على وجوه التونسيين. فالفرحة جاءت في الذكرى الأولى للتعبير عن القطيعة مع الظلم والتسلط والاحتكار من قبل السلطة، للاقتصاد والسياسة والحريات وحتى ما يفكر فيه الشعب، فالرئيس السابق هو الذي كان يعين كبار المسؤولين في المؤسسات الإعلامية الرسمية.

وعليه تبدو النتائج الأولى لثورة البوعزيزي مخيبة للآمال، خاصة وأن التغيير لا يتحمل التسبيح والتطبيل والتملق؛ وإنما هو بحاجة إلى مؤسسات إعلامية قوية، تراقب وتستقصي وتبحث عن الحقيقة وتكشف الفساد والتجاوزات، ابتداءً من الجبالي نفسه إذا خرج عن احترام القانون وسلطة الشعب.

كما أنه كان من المفترض ومن الكياسة والدبلوماسية الابتعاد عن تعيين ابن أخت زعيم حركة النهضة وزيرا للخارجية، حتى لا تكون هناك أية شبهات قد تعكر نقاوة صورة الغنوشي والنهضة عند التونسيين.

فالتعيينات التي أقدم عليها حمادي الجبالي في مؤسسات الإعلام العام، توحي بالحنين إلى نظام التسبيح والمدح و"النفاق الاجتماعي"، والرغبة في السيطرة على الصوت والصورة والكلمة. فإعلام الدولة هو إعلام الشعب، وليس الحكومة أو الحزب.

والحكومة الانتقالية في تونس بحاجة إلى منظومة إعلامية قوية فعالة وملتزمة، ورئيس الحكومة بحاجة إلى مسؤولين أقوياء على رأس المؤسسات الإعلامية الحكومية، لأن هؤلاء يجب أن يكونوا هم الناطق الرسمي باسم الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية والشفافية والصراحة.

الذي طبل وزمر وتملق لنظام بن علي وحقبة بن علي، لا يستطيع بناء مجتمع مدني أو فضاء عام ولا الالتزام بتحقيق أهداف الثورة وأحلام البوعزيزي. وحتى إذا حاول هؤلاء الالتزام، فالأمر ليس سهلا إطلاقا، فالمبادئ لا تشترى ولا تقايض، وإنما يتربى عليها ويترعرع في كنفها.

تعيينات الجبالي أغضبت الصحافيين التونسيين والشارع التونسي، وكل من يأمل وينتظر القطيعة مع العهد البائد. الغضب تجلى في اعتصام أمام مقر الحكومة التونسية، احتجاجا على التعيينات الجديدة التي شملت الوكالة الوطنية للأنباء "تونس إفريقيا للأنباء" والشركة الجديدة للطباعة والصحافة والنشر، والقناتين التلفزيونيتين الوطنيتين؛ الأولى والثانية.

إن فشل الحكومة الانتقالية في اختيار رجالات الكلمة والصورة وصناعة الرأي العام، يعتبر انزلاقا خطيرا قد يؤدي إلى انعكاسات عواقبها وخيمة على مرحلة انتقالية مهمة جدا للشعب التونسي، ومهمة كذلك لتقرير مسار الثورة، سواء بالنجاح أو الإخفاق.

الصحافيون التونسيون ومعهم الرأي العام التونسي، تساءلوا كيف للجبالي ومستشاريه وحزب النهضة تعيين شخصيات كانت تتولى مسؤوليات في عهد الرئيس المخلوع؟ والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا يريد الجبالي من وراء تعيين هذه الشخصيات؟ فإذا كان الهدف هو البحث عمن يلمع ويمدح ومن عنده خبرة في تضخيم الإنجازات والإيجابيات وإخفاء السلبيات، فهذا يعني بكل بساطة أننا لم نخرج من المحنة ومن إعلام البلاط وإعلام التسبيح والتلميع.

ما يجب أن يعيه رئيس الحكومة والحكومة مجتمعة، هو أن المرحلة الانتقالية والمرحلة المقبلة في تونس، لا تحتمل مخلفات عهد بن علي، سواء تعلق الأمر برجالاته أوبطريقته في الإدارة والتسيير، أو في تعامله مع وسائل الإعلام والرأي العام. قد تفسر مثل هذه التعيينات، بأن الحكومة الجديدة في تونس تبحث عن مهندسي الصورة والرأي العام وصناع الأحداث والوقائع.

وليس عن أناس يبحثون في الواقع ويقومون بالرقابة والاستقصاء، للكشف عن الفساد والتجاوزات. وكأنه لا توجد في تونس شخصيات إعلامية مرموقة ونظيفة، بإمكانها أن تتولى المسؤولية وتساهم في بناء منظومة إعلامية جديدة، تواكب التغيرات والتطورات التي شهدتها البلاد في الفترة الأخيرة.

الشيء الذي يقلق كذلك الكثير من الملاحظين والمراقبين للشأن التونسي، هو أن النظام الإعلامي التونسي تعوّد على مدى خمسة عقود، على ممارسة نوع معين من الإعلام، يقوم على الرقابة الذاتية التي يفرضها الصحافي على نفسه حتى يبتعد عن كل ما من شأنه أن يؤدي به إلى مشاكل قد لا تحمد عقباها. ومن جهة أخرى، على الميكانيزمات التي تربط السلطة بالصحافي.

وهي معروفة لدى الكثيرين في العالم العربي، وهي آليات تقوم على الوفاء والتبعية والخنوع واحترام كل ما هو تابع للسلطة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه النوعية من الصحافيين لا تستطيع أن تحقق أحلام البوعزيزي. فالمرحلة القادمة في تونس تحتاج إلى إعلام مسؤول نزيه وملتزم، إعلام لا يجري وراء الربح على حساب القيم والمبادئ، إعلام يقدس الحرية ويحترمها من أجل الوصول إلى الحقيقة.

وليس الأهداف السياسية وبعض الأهداف الضيقة. ما يخيف الكثيرين كذلك، هو العبث بالحرية وعدم احترامها، والدخول في متاهات لا فائدة من ورائها، وفي نهاية المطاف يكون الشعب هو الخاسر. والتجربة الجزائرية خير دليل على ذلك.

حيث لا الإعلام الرسمي ولا الإعلام الخاص، استطاع أن يحدث القطيعة مع الماضي ويبدأ مرحلة جديدة تخدم الشعب وتراقب السلطة وتبني الديمقراطية. مع الأسف الشديد، ورغم كل ما حدث، لم نلاحظ فضاء إعلاميا جديدا يساهم في بناء فضاء عام ومجتمع مدني، يحمل مشعل الديمقراطية والعدالة والمساواة.

 

Email