لماذا تصنيف الناس؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت أشاهد أحد البرامج الحوارية الشهيرة على قناة إخبارية عربية، وكنت أراقب كيف يتبادل ضيفا البرنامج إطلاق التهم والصفات أحدهما على الآخر، وكيف يبذل المذيع قصارى جهده للفصل بين الضيفين والحيلولة دون تحول البرنامج لحلبة مصارعة.

في العادة يوفر لي هذا البرنامج (وغيره) فرصة، إما للفرجة والتسلية أو لتجديد معرفتي بآخر التيارات والصرعات الفكرية والاجتماعية السائدة على الساحة العربية، عندها سألني أخي الأصغر: "مع أي طرف تقف أنت؟". الحقيقة أني حرصت على عدم إعلان تحيزي لطرف على الآخر، حتى لا أفرض رؤيتي أو قناعاتي على ما افترضت أنه "الوعي الناعم" لأخي الصغير، لأفاجأ به يكيل بسرعة وإتقان آلة إلكترونية متطورة، مختلف أنواع التهم لأحد الضيفين: هذا كافر، خائن، عميل.

الحق أني لم أتفاجأ كثيراً، فحتى إن كان أخي صغيراً جداً ليعرف تلك الصفات أو غيرها، فإن انتشار وسائل الاتصالات الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، ماي سبيس وغيرها)، ومن قبلها ازدهار القنوات الفضائية منذ بداية التسعينات، جعلت العرب يرون اختلافاتهم الحادة على الهواء مباشرة..

كل هذا سهّل خروج الجني من القمقم، والجني هنا يرمز للعقلية التي تحب أن تصنف وتفرز الناس إلى فئات، ثم بعد ذلك تبدأ بنفي الناس عن انتماءاتهم الوطنية والدينية، ثم تضع لهذه "الفئات" ألقاباً ومسميات مسيئة لا يرتضيها أصحابها: كفار، خونة، طابور خامس، أصحاب فكر مستورد، متخلفون، ظلاميون.. والقائمة طويلة، تكاد لا تنتهي.

يقول جورج أورويل إن مواطنيه الإنجليز، كانوا في القرن التاسع عشر من أكثر الشعوب الأوروبية ولعاً بإطلاق الألقاب والأسماء القبيحة على الشعوب الأخرى، وبالذات جيرانهم الفرنسيين، ثم أتى بعد ذلك دور الشعوب التي وقعت تحت الاستعمار البريطاني. لكن أكثر ما أحزن أورويل هو اللغة القاسية الرثة التي يستعملها البريطانيون فيما بينهم، للتنابز بالألقاب التي تعيب معتقداتهم الفكرية والمذهبية أو الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها.

رحم الله أحمد لطفي السيد ـ الذي لقبه طه حسين بأستاذ الجيل ـ بسبب ما أسهم به من أحداث التنوير وتكوين العقل المدني وإيجاد الدور المؤسس لنهضة عربية تقودها نخبة من المستنيرين. يروى أن أستاذ الجيل كان قد رشح نفسه في دائرة بمحافظة الدقهلية المصرية في انتخابات بداية القرن الماضي، وخاض معركته الانتخابية باعتباره ديمقراطياً ومدافعاً شرساً عن الديمقراطية.

كان منافس لطفي السيد أحد الأذكياء الكبار، حيث أخذ المصطلح "ديمقراطي" ودار به على القرى وعلى الناخبين، يشيع بينهم في كل خطبه الانتخابية أن كلمة ديمقراطي تعني كافر، قائلاً: "انتبهوا أيها الناس؛ أحمد لطفي السيد ديمقراطي، وديمقراطي يعني كافر".

ولما كانت الديمقراطية جديدة على الناس، والإنسان كما يقولون عدو ما يجهل، فقد صدقوا شائعة المنافس. حين دار أحمد لطفي السيد على الدوائر الانتخابية يباشر دعوته ويقدم برنامجه، كان يسأله الناخبون: هل أنت بالفعل ديمقراطي؟ فكان يجيب بأعلى صوته: أنا ديمقراطي وابن ديمقراطي وأضحي بحياتي في سبيل الديمقراطية. الغريب في الأمر أن لطفي السيد سقط في الانتخابات سقوطاً مدوياً فادحا، بسبب أنه ديمقراطي.

مأساة تصنيف الناس وتقسيمهم لم تقتصر على اللغة وكلماتها، بل امتدت للمظهر الجسدي. ففي تركيا مثلاً، يعتبر الشنب بشكله وحجمه دليلاً لانتماءات الإنسان الفكرية والسياسية، فإن كنت ذا شارب قصير ودقيق فأنت محافظ، أما إن كان شنبك كثاً طويلاً يلامس نهاية الفم فأنت قومي متشدد.. وهكذا.

لقد عانينا في العالم العربي طويلاً من هذه الآفة التي أدت إلى تعميق الهوة بين فئات المجتمع الواحد، وتقسيم الناس بشدة حول قضايا بديهية؛ كتعليم المرأة والحراك الفكري والاجتماعي والانفتاح الاقتصادي وغيرها. وفي الوقت الذي قطع فيه الآخرون أشواطاً شاهقة في سباقات التنمية والانضمام للعالم الأول، فإننا انغمسنا في خلافاتنا، نتقاذف التهم والإهانات بعبثية أضجرت العدو قبل الصديق.

إن أحد أنجح الأدوية لما ذكرناه هو التسامح، لا شيء يطهر ذكريات الأفراد والعائلات بعد تشتتها وانقسامها كالتسامح، وكذا الحال بالنسبة للأمم والبلدان. لقد سجن نيلسون مانديلا سبعة وعشرين عاماً، لا لشيء إلا لمطالبته بأن يساوى الأسود بالأبيض وألا يعتبر الإفريقي نصف إنسان في أرض آبائه وأجداده. فماذا كان رد فعله عندما خرج إلى الدنيا من زنزانته الانفرادية؟ هل رد المعاملة بالمثل للبيض؟ لا، طبعاً، وإلا لما كان البطل الذي يجله العالم أجمع. وهذا هو الخيار الأفضل أمام عرب اليوم؛ سامحوا وتسامحوا، تخلوا عن الأحكام المسبقة وتصنيف بعضكم إلى معسكرات متعادية، كي يوهب لكم مستقبل يليق بماضيكم.

Email