أعمالنا بين الظاهر والباطن

ت + ت - الحجم الطبيعي

الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهو الركن الذي جاء مباشرة بعد شهادة توحيد الله عز وجل والإقرار برسالة النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهي وكما جاء في الحديث "عمود الدين"، لكن هذه القيمة العلية للصلاة ما كانت لتكون لمجرد أن الإنسان يأتي فيها بتلك الحركات المتتابعة المحضة، من قيام وركوع وسجود وقعود، ولا لمجرد أن لسانه يردد خلالها بالقول مجموعة من الآيات والأدعية، وإنما جاءت لأن العبد يكون فيها أشبه ما يكون في علاقة لقاء وحالة تواصل مباشرة مع ربه سبحانه، ولذلك جاء في الحديث: "إن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد".

وهذا الاقتراب لا يمكن الوصول إليه إلا بوصول العبد إلى درجة الخشوع، ولذلك جاء في الحديث أيضاً: "إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها"، والمراد هنا أن هذا الرجل فقد من أجر صلاته بقدر ما غاب عنه الخشوع في أجزائها.

والخشوع، في معناه الأقصى، ليس هو الخضوع والطمأنينة والسكينة الظاهرية فحسب، وإنما هو تلك الحالة النفسية الداخلية المستقرة التي يصل إليها العبد، فيصل عبرها إلى استشعار القرب من الله عز وجل، ربما إلى درجة قد يصل معها إلى الغياب التام عن الإحساس بعالم الماديات. وفي هذا السياق أستذكر تلك القصة التي جاء فيها أن التابعي الجليل عروة بن الزبير رضي الله عنه، أصيب بمرض في ساقه قرر معه الطبيب أن لا علاج لها إلا بالبتر، فطلب منه أن يشرب نبيذا يسكره حتى لا يشعر بألم البتر، فما كان منه إلا أن رفض وقال للطبيب: إذا دخلت في الصلاة وجلست لقراءة التشهد فاقطعوا ساقي، فإني عندما أكون بين يدي الله لا يكون في قلبي إلا هو تبارك وتعالى.

إذاً، فالجوهر الحقيقي للصلاة هو الخشوع، والذي دونه تصبح ليست إلا حركات مادية لا أكثر، والحقيقة أن هذا يسري على كل شيء يمكن أن يقوم به الإنسان في هذه الحياة، فقد جاء في سورة الأنعام (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)، فكل شيء ليست له قيمة بهيئته المادية المباشرة، وإنما بمستخلصه الجوهري الموجه إلى الله عز وجل. وكفة الميزان لا ترجح بالوزن المادي كما هو واضح، وإنما بالوزن المعنوي حين يجعله الإنسان خالصا لوجه الله.

فشق تمرة، أي نصفها، لقادر مع إخلاص النية وخشوع النفس، على أن ينقذ الإنسان من جهنم، كما جاء في الحديث، وفي المقابل فإن أول من تسعر بهم النار ثلاثة؛ رجل تعلم القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كان ينفق المال، وذلك لأنهم لم يفعلوا ذلك مخلصين لله وإنما فعلوه رياء، كما جاء في حديث آخر.

وعندما نستعرض، على سبيل المثال، تلك الأحاديث الشريفة الكثيرة التي تبين فضل كثير من الأدعية، وكيف أن الله عز وجل جعل لمن يذكرونه من خلالها أجرا عظيما، سندرك عندئذ أن المراد كذلك ليس الذكر القولي المجرد، وإنما وصول الإنسان من خلال هذه الأدعية إلى تلك الدرجة التعبدية التي يخشع فيها قلبه وتطمئن سائر جوارحه أثناء هذا الذكر، وإلا فلا فائدة لكلمات يرددها اللسان في وقت يكون فيه القلب مشغولاً وهائماً في البعيد بأمر آخر، تماماً كما أنه، وكما أسلفنا، لا فائدة ولا أجر لصلاة يؤديها الإنسان دون أن يصل من خلالها إلى مرتبة الخشوع.

إن كل شيء يقوم به الإنسان، كبيرا كان أو صغيرا، وعلى أي شاكلة كانت، من عمل أو قول أو تفكر أو تأمل، يجعله المرء خالصاً لوجه الله تعالى في نيته، هو عبادة خاشعة، وأجره على الله، وقد يضاعف الله هذا الأجر أضعافاً مضاعفة بمشيئته ومقتضى علمه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس"، وكذلك جاء في الحديث أن الله قد غفر لامرأة بغي لأنها سقت كلباً كاد يقتله العطش.

مخلص القول من هذا كله، هو أن كل أمور الإنسان في حياته تقاس عند الله بمعانيها ومقاصدها الباطنية، قبل أن تكون بأحجام وأشكال هيئاتها الخارجية، لأن هذه الهيئات ليست سوى قشرة سطحية قد تكون خادعة، بل لعلها تكون على العكس تماما مما في الجوهر، وربما تكون شراً على الشخص وهو الذي يظن أنه يحسن صنعاً.

وليس من معنى كلامي أني لا أعطي المظهر الخارجي لأي عمل، أو لأي شخص، ما يقتضيه ويستحقه من قيمة وأتجاهله بتاتاً، وإنما المراد هو التشديد على أهمية الإخلاص الباطن، فلنتذكر ذلك دائماً ولنستحضره عز وجل في قلوبنا في كل كبيرة وصغيرة، ولنحمل الرغبة بالتقرب إليه والفوز برضوانه على الدوام، وحينها سنفوز بالوصول إلى المعاني الأسمى من وراء هذه الحياة بأسرها.

Email