المرأة والفيضانات القائمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

سوف يتغير عالم المرأة العربية بشكل جذري في السنوات القليلة القادمة. الفيضانات الثورية العربية ما زالت في بدايات تدفقها ولم تسق إلا جزءاً يسيراً من المساحات الشاسعة من المجتمعات العربية الجافة منذ زمن بعيد، ولن تترك شبراً واحداً من جسد الأمة العربية إلا وستقلبه رأساً على عقب. ومن يعتقد بأنه في منأى عن الفيضانات بينما يسير في هيجانها، فهو واهم، شاء أم أبى، والتغيير سيكون شاملاً وعارماً وأحياناً كثيرة مدمراً على عدة مستويات.

مجتمع المرأة العربية التي ظلت حتى عقود طويلة تقاوم بصمت حرمانها من الحقوق التي يتمتع بها مجتمع الرجال، سوف تتغير خارطته. وكافة الثورات العالمية طوال التاريخ أصابت منها المرأة نصيباً كبيراً. وشاركت فيها المرأة بشكل واضح.

 سواء في فرنسا أو ألمانيا أو اليونان أو غيرها. ولا أقرب مثلاً من المرأة اليابانية التي كانت تمثل في تقاليد الشعب الياباني في زمن الإمبراطوريات المتعاقبة جزءاً من متاع ومتعة الرجل في آن واحد.

 ولم يكن لديها خيار آخر سوى الرضوخ طواعية لرغبات وأهواء الزوج وتقلبات مزاجه. وكانت واحدة من مهامها اليومية غسل يديه ورجليه وتحضير وجباته بصمت تام.

وبينما كان الرجال يسهرون كما يشاؤون فيما بينهم ويقضون وقتهم في حانات القرية والبلدة حتى وقت متأخر، كانت النساء يقبعن خلف الجدران. أما بعد الثورة الاجتماعية والصناعية التي تلت الحرب العالمية الثانية والتي غيرت خارطة اليابان السياسية، فإن زي الكيمونو أصبح من تقليعة الماضي، وخرجت المرأة اليابانية بجرأة تجاوزت بكثير جرأة الرجل الياباني.

وفي فرنسا، كانت المرأة دون الرجل في كافة المجالات، وأحيانا لم تمثل سوى دور المحظية التي تعيش في أروقة القصور أو تعمل تحت مشيئة الإقطاعي المستبد وتستجيب لنزواته ورغباته.

حتى انفجرت الثورة الفرنسية عام 1789 فإذا بها تلتقط تلك الفرصة النادرة وتحرر نفسها من كافة القيود المتراكمة عليها عبر العصور، وها هي منذ أواسط القرن الماضي تزاحم الرجل على حكم فرنسا ولم تعد تلك المحظية التي ينحصر دورها في توفير المتعة للملك وحاشيته بين أردهة القصور أو رغبات الإقطاعيين. وكذلك الحال في بريطانيا، حيث تحولت المرأة من حرير إلى امرأة من حديد كالسيدة تاتشر مثلا، وفي ألمانيا أصبحت تتحكم في مستقبل أوروبا بجرة قلم كرئيسة الوزراء الحالية أنجيلا ميركل.

أي أن الثورات الشعبية كثيرا ما تتمخض عنها ولادات جديدة تقلب من مكانة المرأة اجتماعيا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا. وحتى في تاريخ إيران على مر العصور، فإن المرأة لم تحصل فيها على حقوقها السياسية (كحقها في الانتخاب والتمثيل في البرلمان والعمل السياسي) إلا بعد نجاح واستقرار الثورة الإسلامية ضد سلطة الإمبراطور محمد رضا بهلوي.

صحيح أنه فرض عليها جبرا الالتزام بالحدود التي وضعها الإسلام للمرأة المسلمة، فيما يتعلق بالملبس والتبرج والخروج وفي العلاقة مع الرجل، وهذا ما كان بالذات مباحا لها في زمن الإمبراطور السابق، إلا أنها أصبحت أكثر حرية فيما يتعلق بالأمور الأخرى في زمن الثورة الإسلامية.

الثورات عندما تُسقِط النظم الدكتاتورية فهي تُسقِط معها نزعة الفوقية. حيث إن مبدأ الثورات أساسا يقوم على إزالة الفوارق بين الحاكم والمحكوم، بين المتسلط والمظلوم، وهذا يجر معه قضية تسلط الرجل على المرأة. والحقيقة أنه في كثير من الأحيان تلعب المرأة في مثل هذه الثورات الشعبية دورا أساسيا. فهي تعلم مسبقا أنها فرصتها الأخيرة والوحيدة للحصول على ولو جزء بسيط من حقوقها التي استولى عليها الرجال الأقوياء أصحاب العضلات دون وجه حق. وإذا ما رجعنا إلى دين الإسلام الحنيف، سنجد أنه إضافة إلى رسالته السماوية فهو في جوهره دين ثورة.

ثورة على النظام الجاهلي السائد ذلك الوقت، وثورة على النظام السياسي القائم على القبلية وعلى النظام الاقتصادي القائم على الربا وثورة عارمة على النظام الاجتماعي بالدرجة الأولى القائم على الطبقية والتمييز العنصري والتفرقة بين الرجل والمرأة التي كانت توأد بغير ذنب ارتكبته، فرد لها اعتبارها ومنحها صلاحيات واسعة.

فما من دين سماوي منح المرأة حقوقها كاملة وحافظ على قيمتها كالإسلام. ولذلك نجد أن مشاركتها في الحروب جنباً إلى جنب الرجل مسألة لم تعهدها الشعوب الأخرى من قبل، بل إن سيدتنا عائشة رضي الله عنها كانت لها مواقف سياسية مهمة وشاركت في حرب الجمل عام 36 هجرية وهي زوجة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. أي أن الإسلام منح المرأة صلاحيات وامتيازات واسعة وصلت إلى حد قيادة الجيوش العسكرية.

فلا غرابة أن تشارك المرأة العربية في معركة الثورات التي ستصب في كل الأحوال في صالحها مدعومة من قبل عدة تيارات ومنظمات منها منظمات حقوق الإنسان وحقوق المرأة وغيرها التي تعقد اجتماعاتها المتواصلة على قدم وساق تمهيداً للمرحلة القادمة. ولم يتجرأ أحد من الرجال أصحاب العضلات على رفض هذه التوجهات المعلنة في وضح النهار باعتبار أنها كلها تسير في طريق الديمقراطية التي ينادي بها الثوار ومنها المساواة بين الرجال والنساء.

إن محاولة الوقوف في وجه هذه التيارات الزاحفة من النساء نحو تغيير أوضاعهن بعد عقود طويلة من القهر سيكون إضاعة للوقت. الوقت لم يعد يجري في صالح الرجال. وعليهم في العقود القادمة القبول بالأمر الواقع مهما حاولوا تهميش دورهن. والخوف ألا ينقلب الطقس وألا تنعكس الآية ويشتكي الرجال بعدها من الظلم على يد النساء. وفي هذه الحالة لا بد من طوفان معاكس وإعادة الديكتاتوريات القديمة إلى أماكنها. هذا والله أعلم.

Email