ساركوزي والقراءة المزدوجة للتاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

في رد عنيف على تبني فرنسا قانوناً يجرم إنكار إبادة الأرمن، اتهم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي باللعب على مشاعر كراهية المسلم والتركي. كما اتهم فرنسا بارتكاب إبادة في حق الشعب الجزائري.

حيث قتل الاستعمار الفرنسي أكثر من 15 بالمائة من الشعب الجزائري أي مليون ونصف مليون. القوى الفاعلة في النظام الدولي تحّرم ما يحلو لها وتبيح ما يخدم مصالحها، وتحدد معايير ومقاييس وتفّصلها حسب أهوائها ومزاجها ومصالحها بطبيعة الحال.

وفي أحيان عدة تتميز مثل هذه التصرفات بتناقضات ومفارقات عجيبة. البرلمان الفرنسي قبل أيام صادق على قانون تجريم كل من يشكك في جرائم الأرمن التي ارتكبت ما بين 1915 و1917 حيث سيعاقب من يشكك في تلك الجرائم بالسجن لمدة سنة وغرامة مالية تقدر بـ 45 ألف يورو.

الأمر الذي يثير التعجب والدهشة هو أين هو البرلمان الفرنسي من المجازر التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر لما يزيد على 130 سنة، وأين هي أعمال العنف والتنكيل والتعذيب في العديد من المستعمرات الفرنسية في إفريقيا والهند الصينية وفي العديد من دول العالم.

للتذكير فقط، قتلت فرنسا في يوم واحد، أثناء مظاهرات 8 مايو 1945، 45.000 جزائري في مدينة سطيف وقالمة وخراطة والسبب كان المتظاهرون خرجوا للمطالبة باستقلال الجزائر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كما وعدتهم فرنسا بذلك مقابل مشاركتهم في صفوف الجيش الفرنسي.

فرنسا وحتى الساعة لم تعترف بجرائمها في الجزائر وبقتل مليون ونصف مليون جزائري من أصل 10 ملايين، بل أكثر من ذلك فرنسا تحاول أن تمجد ماضيها الاستعماري وتتغنى بما حققته من تمدن وتحضر وتقدم لمستعمراتها.

المفارقة هنا أن الاستعمار الفرنسي فعل حضاري يجب أن يمجد، ومجازر الجزائر أصبحت محاسن بينما مجازر الأرمن يجب الاعتراف بها من قبل تركيا ويجب معاقبة كل من يشكك فيها أو يكذب بأرقامها.

في هذا المقام نحن لا نحاول التقليل من عملية إبادة الأرمن ولا نغطي على الفاعلين، لكن المفارقة هي أن دولة بحجم فرنسا أصبحت تتفنن في إصدار قوانين معاقبة من يناقش الهولوكوست ومجازر الأرمن ومتناسية ماضيها الاستعماري الذي يفوق بكثير ما فعله هتلر وغيره من السفاحين في الدول المعروفة بتاريخها الاستعماري الأسود.

المفكر والفيلسوف الفرنسي رجاء غارودي ألف قبل سنوات كتاباً بعنوان «الأساطير المؤسسة لإسرائيل» كشف من خلاله بالأدلة والبراهين والأرقام التناقضات والأكاذيب وعمليات التضليل التي تتميز بها دولة إسرائيل والحركة الصهيونية العالمية.

ومن بين المواضيع التي تطرق إليها الكتاب موضوع عدد ضحايا المحرقة «الهولوكوست»، حيث أثبت غارودي بالأدلة المغالطات العديدة التي تحتويها قضية الهولوكست واستغلالها لتبرير إرهاب الدولة الذي يمارسه الكيان الصهيوني يومياً في الأراضي الفلسطينية، وهذا في حقيقة الأمر الشيء الذي أزعج الصهاينة وجعلهم من خلال قوانين «معاداة السامية» وقانون «فابيوس ــ جيسو» القضاء فكرياً ومعنوياً ونفسياً على روجيه غارودي وكل من يقف في طريقهم الاستعماري الاستغلالي الاستبدادي وكل من يفضح عمليات التضليل والدعاية والأساطير التي تقوم بها إسرائيل.

نشط اللوبي الصهيوني في الأوساط السياسية والبرلمانية الفرنسية واستغل نفوذه وقوته سواء في البرلمان أو في حكومة لوران فابيوس لتمرير قانون يعاقب بالسجن لمدة سنة وغرامة تقدر بـ50 ألف دولار كل من يشكك في الهولوكوست والمآسي التي تعرض لها اليهود في المعسكرات النازية، صدر قانون «فابيوس ــ جيسو» للتستر وإخفاء ودفن الأكاذيب وأساطير الصهيونية وجاء لحماية الخرافات اليهودية ولمنحها حصانة فكرية ومعنوية وأدبية، لم تنعم بها من قبل أي حركة سياسية أو أيديولوجية وفي أي ديانة.

وفي نفس السياق وقبل سنة أصدر البرلمان الفرنسي قانوناً سمي بقانون العار. القانون مجّد الأعمال الشنيعة التي قام بها الاستعمار الفرنسي في مستعمراته المختلفة عبر العالم. القانون أثار الكثير من الجدل والاستياء وأسال الكثير من الحبر على مستوى الرأي العام الفرنسي والمستوى الدولي نظراً لما يحتويه من تضليل للحقائق وتشويه وتحريف للتاريخ وبسبب إهانته لذاكرة الشعوب وتاريخها.

إن قانون تجريم إنكار إبادة الأرمن يشير إلى قراءات عديدة من أهمها استخدام التاريخ وتطويعه لخدمة الاستحقاقات الرئاسية التي تنتظر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والتي تشير غالبية التحليلات والتكهنات أن حظوظه في الفوز بها تكاد تنعدم. فساركوزي من خلال تمرير هذا القانون يخطب ود الفرنسيين من أصل أرميني ويراهن على كسب أصواتهم ولماذا لا فكل الوسائل مبررة للحفاظ على كرسي الرئاسة. من جهة أخرى تعاني تركيا من موقف معاد من كل من ألمانيا وفرنسا للانضمام للاتحاد الأوروبي، فأوروبا غير جاهزة لاستقبال بلد مسلم يضم 80 مليون نسمة.

من جهة أخرى نلاحظ أن المصادقة على القانون الأخير في الجمعية الوطنية الفرنسية ما هي إلا تكملة لسلسلة من القوانين والإجراءات التي وضعتها القوى الكبرى في العالم مثل قانون «معاداة السامية» و«قانون فابيوس ــ جيسو» وغيرها كثير.

هذه القوانين تتميز بالعنصرية والكيل بمكيالين، فكيف نمجد الاستعمار من جهة؟ ومن جهة أخرى نجرّم ونعاقب ونسجن من يناقش وينتقد قضايا مثل الهولوكست وإبادة الأرمن ونتغاضى عن 20 مليون روسي ماتوا في الحرب العالمية الثانية وكيف ننسى جرائم الاستعمار في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ونركز على بعض الأقليات وبعض الشعوب دون سواها؟. أم هل هناك شعوب أرقى وأسمى من غيرها وأخرى لا تعني شيئاً وأنها مجرد أرقام.

فالأجدر ببلد مثل فرنسا أن تراجع تاريخها وتعترف بالمجازر التي ارتكبتها في مستعمراتها، وخاصة الجزائر، قبل أن تفكر في إصدار قوانين تعاقب من يشكك في الهولوكست وفي إبادة الأرمن. ضحت الآلة السياسية للرئيس ساركوزي بـ8.6 مليارات دولار حجم أعمال الشركات الفرنسية في تركيا من أجل حفاظ هذا الأخير على كرسي الرئاسة فهل ستحقق له هذه التضحية أحلامه؟

Email