العراق قبل البكاء على الأطلال

ت + ت - الحجم الطبيعي

خرج الأميركيون من باب ودخلت الفوضى من باب آخر. وكأنه كتب على الأمة العربية التي أنارت العالم أن يسودها الظلام والفوضى لعقود أخرى قادمة.

وحيث ان القوات الأميركية وجيوشها التي أسقطت نظاما سابقا لم تستطع أن تقيم نظاما جديدا قادرا على حماية نفسه، ولا أدل على ذلك تلك التفجيرات التي تحولت في اليوم التالي لخروج القوات الأميركية، إلى ما يشبه الألعاب النارية (وكنت أفضل كلمة الألغاز النارية) التي خلفت المئات من الضحايا، فلا نتصور أن يقوم النظام الحالي بإمكانياته المتواضعة بالحفاظ على أمنه الداخلي.

الكل راهن على فشل الاحتلال وفشل النظام. الأول اعتمادا على تجارب الشعوب. والآخر على الشكل الذي أقيم عليه النظام وعلى أمور أخرى خارجية وداخلية.

للعراق وضع خاص به. وضع داخلي ووضع خارجي. أما الوضع الداخلي فهو ناجم عن وجود ثلاث فرق كبرى داخلية تحتل مساحات عريضة من المساحات الجغرافية والاتجاهات الثقافية والاختلافات المذهبية والأصول العرقية. فهناك السنة وهناك الشيعة وهناك الأكراد. ومن هذه الأغصان الثلاثة تتفرع فروع أخرى، وهكذا. وكلما تفرعت تشابكت. أما الوضع الخارجي فهو أيضا يبدو على شكل ثلاثي الأبعاد. فهناك التدخل الإيراني والعناصر المتطرفة التي تمد أصحابها بالمال والعتاد والمصالح الغربية.

إيران بالطبع لها مصالح عديدة في المسك بخيوط اللعبة في العراق. فالحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات كانت أشبه بلدغة تعلمت منها إيران درسا قاسيا وصممت فيما يبدو على اقتلاع أنياب هذا الوحش الذي هدد كيانها مرة وأنها لا تريد أن تلدغ من نفس الجحر مرتين. وقد جاءتها الفرصة "على صحن من ذهب" عندما سقط هذا الأخير وتم تدمير أسلحته عن بكرة أبيها. ثم جاءها الحظ مرة أخرى "على صحن من ذهب" عندما انقلبت موازين القوى الطائفية لتصب في مصلحة الشيعة الذين يتهمون النظام السابق بالقضاء عليهم ومحاربتهم.

وأصبحت إيران المحرك الأول لتحويل اتجاهات السياسة العراقية الخارجية والداخلية. واليوم جاءها "صحن من ذهب" ثالث بخروج القوات العسكرية الأميركية تماما من العراق. وبالتالي خلا لها الجو عند جارتها القديمة قدم التاريخ. ولو غفلت إيران عن جارتها لحظة واحدة لانقلبت موازين القوى كلها في المنطقة.

ومهما ادعت إيران عدم تدخلها في العراق وعدم ممارسة أي نفوذ على قرارات الحكومة، إلا أن المنطق والحال يقول غير ذلك. على الأقل توجد هناك مشاورات وتبادل آراء وتنسيق دائم بين الطرفين. فإيران تشعر بأنها محاصرة من الخارج، وتمثل العراق منفذا مهما لها إلى العالم الخارجي. والنظام العراقي في مأزق مع الأمن الداخلي ومع إعادة بناء ما دمرته الحرب، وفي حاجة إلى من يدعم هذا الأمن ويقدم خبراته الهندسية، ولابد بالتالي من دولة قوية تملك تلك القدرات الخاصة، وهكذا وجدت العراق متطلباتها موفرة لها بالمجان في غياب تحرك عربي موحد لدعم أمن العراق ولتعمير بنيته التحتية، ووجدت إيران في المقابل من يرغب في تأجير حمايتها.

ومقابل التدخل الخارجي الإيراني الشيعي النزعة كان لابد من تدخل خارجي سني التوجه. وهناك فيما يبدو عدة جهات تريد أن تلعب دورا في إعادة التوازن الطائفي الشيعي السني في العراق. وإذا كان للقاعدة دور في الاصطدام القادم بعد رحيل جنود اليانكي، فهذا يعني شيئا واحدا: أن الاصطدام القادم سيكون بقوة قنبلتي هيروشيما وناجازاكي مجتمعتين. أي أنه سيكون مدمرا للعراق الذي مازال لم يلتقط أنفاسه رغم كل هذه السنين اللهم إلا من خلال الشعارات التي لا تعكس حقيقة الواقع.

أولى نتائج هذا الاصطدام سيكون حتما انفصال الشمال التام عن باقي العراق بدعم غربي ممتاز، مهدت له استقلاليتهم في جميع نواحي الحياة وبروزهم كثقل يحسب له ألف حساب ثم تصريحات مسعود برزاني قبل اشهر في هذا الصدد. والأكراد في الشمال إضافة إلى حلمهم بدولة مستقلة تحميهم من انقلاب الأمور في مستقبل مجهول المصير، لن يرضوا بأن يشاطرهم أحد في مخزونهم النفطي. والخسارة ستكون بالتالي ضربة قاصمة للشيعة والسنة على حد سواء. فانفصال الشمال عن العراق الأم يشبه إلى حد كبير انفصال جنوب السودان. لتشابه الظروف ووفرة الاحتياطي النفطي في كل بلد منهما. وفي هذه الحالة لن يبقى للعراقيين سوى ثلثي مساحتهم ومساحة للندم ودموع تشبه دموع آخر أمراء الأندلس. وربما انفصل الجنوب بعد ذلك وظل الوسط معلقا في الهواء!

وإذا كان هذا ما يريد أن يصل إليه الشيعة والسنة في الداخل والخارج في العراق أو في أي بلد آخر فلا بأس من الاقتتال وزرع المتفجرات وإشاعة الفوضى وسيكونون هم الخاسر الأول. وإيران الخاسر الثاني. إما إذا كان هدف الطائفتين المحافظة على جغرافية العراق وعلى ثرواته فعليهم تقديم التنازلات والجلوس لوضع خارطة طريق لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان وقبل البكاء على الأطلال.

Email