ماذا حدث لفرنسا؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك شيء ما يحدث في عقول مهندسي السياسة الفرنسية الخارجية بالذات. ما حدث قبل أيام مع تركيا أمر مهم للغاية ويتطلب التوقف أمامه. هذا الأمر مهم لأنه يخص جمهورية تركيا والتي يقودها حزب صعب المراس عريق في السياسة مفاجئ في قراراته. ويجب التوقف أمام هذا الأمر، لأنه لا يخص تركيا وحدها بل المنطقة برمتها.

المسألة في نظر الكثيرين تم حسابها بشكل خاطئ ومن عدة اتجاهات وأدت إلى ما أدت إليه.

أولاً هي مسألة تاريخية وتخص المؤرخين ولا يوجد ما يدعو السياسيين لأن يحشروا أنوفهم فيها. ونحن نتحدث عن مسألة حساسة جدا تتعلق بالإبادة الجماعية للأرمن على يد الأتراك العثمانيين في بدايات القرن الماضي، وتحديدا أثناء الحرب العالمية الأولى. أي قبل قرن من الزمان. وأرقام الضحايا قد تصل إلى أكثر من مليون.

 وحينما نتحدث عن الماضي فإنه يجب أن نتحدث عن عدة معطيات. والحكم عندها يكون صعباً، حيث إن كل شعب يدعي لنفسه الحق ويفسر تصرفه بأنه دفاع عن النفس. لذا فإن معظم شعوب العالم لا تعترف بجرائمها ولا تفتأ تقدم المبررات لأعمالها ولا تسمح لأحد أن يشير إليها بأصابع الاتهام. هذا إذا كنا نتحدث عن الماضي الذي غابت حقائقه واختلطت أوراقه وأصبح القوي والغالب هو من يؤخذ بتاريخه ويضيع تاريخ الضعيف.

ولا توجد دولة واحدة من الدول الكبرى لم ترتكب حماقة الإبادة الجماعية. غير أن هذه الدول لا تعترف ولا تسمح بأن تحاكم بهذه الجرائم. وفرنسا لا تخرج عن هذه الأمم. وإذا سمحنا لأنفسنا أن نذكر مثالًا، فلا أقرب من مثال ما حصل للجزائر على يديها.

حيث استعمرت أسوأ استعمار وأبيد أهلها وحوكموا محاكمات عسكرية وحشية ومخجلة بحق البشرية. وهناك ما حدث للهنود الحمر الأصليين في أميركا وفي فيتنام وأفريقيا على يد الأميركيين وأفريقيا والهند وشرق آسيا على يد البريطانيين والبرتغاليين والإسبان وحتى الإيطاليين وهكذا. غير أن هذه الدول تبرر سلوكها بحجة أنه دفاع عن النفس أو عن الحرية أو عن أمنها الوطني.

وهذه الكذبة غير الحضارية التي يندى لها جبين التاريخ ما زالت تمارس حتى وقتنا الحاضر. فما حدث في أفغانستان حيث الأرقام ضاهت المليون قتيل ومثله في العراق وفلسطين ولبنان، حيث مورست أسوأ أنواع المجازر حتى يومنا هذا بأرقام لا يعلمها إلا الله، وما زالت ترتكب مخابرات الدول الكبرى أسوأ أنواع التصفيات السياسية للدفاع عن استراتيجيات نفطية واقتصادية تعدى رقمها أرقام مجازر الأرمن قبل مائة عام. ويظل في النهاية قرار المؤرخين أصحاب الضمير هو القرار شبه الأخير.

وهنا وقعت الكارثة في فرنسا قبل أيام. فهل يحق للبرلمان الفرنسي أن يؤرخ ويصدر حكماً حتى ولو كان داخلياً بحق تاريخ شعب من شعوب العالم؟ وبالتالي هل يحق لكل شعب من شعوب العالم أن يعطي مجالسه القومية الحق في إصدار أحكامه على التاريخ؟ إذاً، يجوز لبرلمان الجزائر أن يصدر قانوناً بمقتضاه يجب سجن وتغريم ومقاضاة كل من ينكر مجازر الاستعمار الفرنسي في الجزائر.

المسألة الثانية هي أن هذا القرار جاء وكأن فرنسا تغرد خارج السرب. فالشرق الأوسط يغلي والأنظمة تتغير والحكومات العربية تواجه أصعب مراحل إعادة تشكلها بين أن تكون أو لا تكون، وفرنسا تعلم جيداً أن لتركيا وزناً تاريخياً وسياسياً وجغرافياً في المنطقة وسط هذه الفوضى العارمة. وبدلاً من إثارتها كان على فرنسا التي تطمح لدور أكبر في منطقة الشرق الأوسط أن تتقرب من تركيا وتدعم دورها كوسيط بين الشرق والغرب لتفوز بالحصة الكبرى من كعكة النفط، في وقت بدأ فيه انحسار الهيمنة الأميركية .

وما ترتب عليه من تقوقع إسرائيل على نفسها. والكل يعلم أن تركيا أصبحت منذ بداية الحرب على الإرهاب البوابة الوحيدة للدخول والخروج من الشرق الأوسط. وغريب أن تسد فرنسا هذا الباب في فترة هي أحوج ما تكون إليه إلى مثل تركيا.

المسألة الثالثة هي أن تركيا دولة أصبح اقتصادها ينمو بشكل مطرد بفضل سياسة وخبرة حزب العدالة والتنمية. وأن فرنسا تحتفظ منذ قديم الزمان بعلاقات اقتصادية وعسكرية وتجارية كبيرة مع تركيا. فليس من العقل أن تخسر فرنسا شريكاً بهذه الأهمية مقابل قانون داخلي لم يعد ذا جدوى بعد قرن من الزمان، بل ولاقى الكثير من الرفض حتى من قبل الأحزاب السياسية الفرنسية.

لا شك أن القرار الفرنسي اتخذ عن قصد، وهذا القصد كيفما كان يظل واهياً ولا مبرر له. فإذا صحت آراء المحللين بأن ساركوزي الذي يعاني في هذه الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية الجديدة من تدني شعبيته إلى أدنى مستوياتها لدى الفرنسيين، بأنه كان وراء هذا القانون لكسب أصوات الفرنسيين من أصول أرمنية، فهذا يعني أنه قرار شخصي وخاص جر معه فرنسا بكاملها إلى طريق مسدود.

وإلى خسران حليف مهم في منطقة الشرق الأوسط! إما إذا كان يهدف إلى تحجيم تركيا وتشويه صورتها لدى الرأي العام العالمي بأنها دولة ذات ماض دامٍ، بغرض تقليص دورها المتنامي في الشرق الأوسط ليفسح المجال لدور فرنسي أكبر، فهذا أيضاً مردود، لأن هذا القانون أعاد إلى الأذهان تاريخ فرنسا الدامي في الجزائر وأفريقيا وشرق آسيا، وتركيا حظيت بثقة العديد من دول الشرق الأوسط وتركيا تقع على مشارف هذه المنطقة ويربطها معهم تاريخ طويل وعريق.

وأن العديد من الدول التي غيرت نظامها السياسي خلال الربيع العربي بدأت تفكر في تطبيق التجربة التركية ولم تفكر مطلقاً في التجربة الفرنسية، وأن تركيا تظل في جذورها العميقة دولة إسلامية (بالرغم من علمانيتها الحديثة) والشرق الأوسط عبارة عن قطعة شطرنج إسلامية مائة بالمائة.

ترى ماذا ستكسب فرنسا سياسياً بعد إقرار هذا القانون ذي الطبيعة (التاريخية)؟

Email