ماذا ينتظرنا بعد الاحتفالات بالوطن؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

مضت احتفالات الدولة. وكانت باهرة. تنظيماً وعملاً ونتيجة. كان أمراً فريداً من نوعه في تاريخ بناء دولتنا. حيث لم نشهد منذ قيام اتحاد دولة الإمارات زخماً إعلامياً وفعاليات وأنشطة شعبية على هذا المستوى قد صاحبت الاحتفال باليوم الوطني كما شاهدناه هذه السنة احتفاءً بمرور 40 عاماً على قيام الدولة.

ولكن هل نكتفي بتلك الاحتفالات؟ الوطن اليوم في حاجة إلى طاقاتنا العاملة والمهدرة معاً. هناك طاقات هائلة خرجت في مسيرات عدة للتعبير عن فرحتها ثم سنراها تعود إما لاستكمال العمل أو لكي تغوص من جديد في مسائل بعيدة تبعدها عن احتياجات الوطن، أنا لا أتحدث عن الأطفال، فهذا عيدهم ويحق لهم أن يمرحوا كما شاءوا. ولا أتحدث عن كبار السن، فهؤلاء قدموا للدولة ما قدموه ويحق لهم اليوم الشعور بالانتصار والنوم براحة الضمير. أنا أتحدث عن الفئة العمرية التي تمتد ما بين العشرة والستين من العمر.

ماذا ننتظر أن يقدم الطالب في المدرسة ابتداءً من سن السادسة حتى الثامنة عشرة لوطنه؟ ماذا يجب أن نعلمه أن يقدمه؟ ما دور الأبوين في توجيهه إلى الوجهة الصحيحة؟

الدولة أقامت لطلاب المدارس أفخم المباني المدرسية المشيدة على أفضل المعايير، بالطبع مقارنة بدول أخرى. وقدمت له الكراسة والكتاب بالمجان. وقدمت له المدرس والحاسوب بالمجان. ووفرت له المواصلات بالمجان. أي أن الطالب الإماراتي هو أقرب لمستوى الأمراء منه إلى مستوى الطالب العادي.

 أي أنه بكلمة أخرى طالب سبع نجوم. لكن يا ترى كم يستثمر الطالب المدرسي من تلك الخدمات المجانية حتى يصل إلى عتبات الجامعة؟ إن الفرق بين الطالب في المدارس الحكومية والطالب في المدارس الخاصة هو فرق نفسي. إن اهتمام طالب المدارس الخاصة بالدراسة ناتج عن القيمة التي يدفعها والداه واللذان بالتالي يتابعانه خطوة بخطوة. والطالب الحكومي يهمل لأن كل شيء يأتيه بالمجان.

ولو فرضت الدولة رسوماً تشابه رسوم المدارس الخاصة على طلاب المدارس لاختلفت النتيجة. المطلوب من طلاب المدارس أن يقدموا شيئاً بسيطاً مقابل الأرقام الهائلة التي تصرفها عليهم من خزانة الوطن. الدولة غير مسؤولة عن وضع اللقمة في فم الطالب. على الطالب أن يبذل جهداً يوازي ما يقدم له. ويحمد الله على النعمة التي حُرم منها الكثيرون غيره في دول العالم أو حتى في دولته.

وأن يجعل من كتابه وكراسته وفصله ومدرسه وكرسيه وطاولته وسيلة لبناء نفسه أولًا بطريقة سليمة ويبني وطنه بالتالي بطريقة أصح. الوطن في حاجة إلى أيديهم وعقولهم وطموحاتهم. فهل تهدر تلك الطاقات وقتها الثمين وإمكانياتها الهائلة في أمور هي في مضمونها أتفه من سحابة تدفعها رياح الغرور فلا تمنح ظلاً ولا تنزل مطراً؟

في هذه السن بالذات لا يمكن للشاب أن يسير من غير نصح والديه وأهله. فهل أدرك الوالدان خطورة هذه المرحلة الخطيرة في تكوين أبنائهم لبناء وطنهم؟ أم اكتفوا بشراء وتوفير الأوشحة والرايات والمفرقعات لمناسبة الاحتفالات بالعيد الوطني فقط لا غير؟ المدرسة يد واحدة في البناء واليد الواحدة لا تبني بمفردها.

ثم هناك طلاب الجامعات والمبتعثين للخارج ما بين الثامنة عشرة والثانية والعشرين: أربع سنوات تتشكل فيها شخصية الطالب. والواقع أن الدولة وفرت لطلاب الجامعات ما لم توفره أي دولة أخرى لمواطنيها، من الدراسة إلى السكن والمأكل والمواصلات. وكل شيء أيضاً بالمجان.

أنا لا أطلب من الآباء سوى زيارة جامعة الإمارات في مبناها الجديد في مدينة العين، والإطلاع على أحدث الوسائل التكنولوجية المستخدمة في التدريس. غير أن وزير التعليم العالي ومديري الجامعات وعمداء الكليات ورؤساء الأقسام ولا حتى الأساتذة فيها ليست مهمتهم الأولية تربية الطالب الجامعي وتدريبه على احترام والاستفادة القصوى من تلك الوسائل.

المفترض أن يكون الطالب الأكاديمي عندما يضع قدميه على عتبات الجامعة جاء وهو يحمل في رأسه قيم التعلم الجامعي وتربية صحيحة يستحق بها الاستفادة من تلك الإمكانيات المتاحة له بالمجان. الكثيرون من طلابنا وللأسف الشديد غير مدركين لتلك الحقيقة. والوطن في حاجة إلى أن يدرك الطالب الجامعي تلك الحقيقة. وأن يعرف أن عليه أن يرد جميل الوطن في يوم ما.

ليس لدي رقم مؤكد، ولكن تكلفة الطالب الجامعي تكلفة باهظة جداً. خاصة وأن الدولة استقطبت خيرة أساتذة الجامعات العالمية لتضعهم بين يدي أبناء الوطن. إن أربع سنوات من الدراسة والتخصص في كل المجالات ليس بالأمر السهل. في هذه السن، المفترض ألا يكون للآباء سلطة على الأبناء. فقد أوصلوهم إلى مرحلة البناء الذاتي والاعتماد على النفس. وعلى هؤلاء وهم على مدرجات القاعات الدراسية أن يضعوا نصب أعينهم ان الوطن في انتظار الكفاءات الحقيقية لاستكمال البناء.

وأن المسألة تدخل فيها رهانات عدة معقدة منها الكفاءات والصدق وصدق النية والإخلاص حتى لا تطيح بهم المنافسة بعد التخرج خارجاً لصالح الخبراء والمختصين القادمين إلينا من شتى أنحاء العالم، وحتى لا يدار الوطن بأيدي أجنبية تفتقر إلى الولاء وحتى لا يندب المواطن حظه العاثر وحقوقه الضائعة. الطالب الأكاديمي ليس سيارة فخمة وهاتفاً محمولاً ودردشات فارغة ودشداشة من حرير ونعالين من جلود التماسيح والثعابين. الطالب الجامعي هم، تفكير، قلق، سهر، تعب، إرهاق، دموع، تحد، منافسة، مكتبة، كتاب وبحث ولا وقت للنوم وللطعام وللشراب والراحة. الوطن في انتظاره ثم يأتي بعد ذلك المواطنون العاملون وهم ما بين الثانية والعشرين والثانية والستين.

هؤلاء هم البناؤون الذين شمروا عن سواعدهم ونذروا أنفسهم لخدمة الوطن مستثمرين ما تعلموه. هؤلاء تقع عليهم المسؤولية الكبرى أمام الوطن. فهم الوزراء والوكلاء والمهندسون والأطباء والمحامون والمعلمون والتجار والاقتصاديون وأصحاب المؤسسات والمثقفون والكتاب والصحافيون والإعلاميون والعاملون في الظل ورجال الأمن والمدافعون عن الوطن. وهم السياسيون والمخططون والمستشارون والدبلوماسيون الذين ينقلون صورة بلدهم إلى العالم حيث كان.

الوطن يطلب من هؤلاء الوفاء والإخلاص والأمانة والمحافظة على ممتلكات الدولة وعلى أموالها ومصادرها وأسسها وأمنها واستقرارها وحتى بيئتها. وللأسف الشديد أن هناك، كما في كل مجتمع، نسبة ضربت بعرض الحائط القيم والأخلاق والأمانة، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم. فخسروا الوطن وخسروا الثقة وخسروا أنفسهم. فكل كلمة أمانة، وكل وظيفة أمانة، وكل مهمة أمانة، وكل درهم أمانة، والأمانة تكون في عنق صاحبها إلى يوم القيامة.

هذا ما يرجوه وينتظره الوطن من كل مواطن قبل وبعد مرور الاحتفالات بأعياد الوطن، وليس فقط حمل رايته، وتعليق شاراته، والسير في مسيراته ثم بعد ذلك ننسى حقوق الوطن.

Email