متى نَفْهم زايد؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

دخلتُ المكتبة أبحث عن كتاب يتحدث عن الشيخ زايد يرحمه الله فدلني الموظف على مجموعة من الكتب المصورة (Coffee Table Books)، تصفحتها فوجدتها مليئة بالصورة الجميلة والنصوص الشاعرية التي تصف زايد كعاشق للتراث.

حيث امتلأت بلقطات أثناء رحلاته للصيد بالصقور، وصور أخرى وهو يسقي أشجار النخيل، وصور قديمة وهو واقف أمام قلعة أثرية، وكانت غالبية تلك الصور بالأبيض والأسود.

وضعتُ الكتب وسألتُ الموظف عن كتب أخرى غير مصورة، فأرشدني إلى كتاب وحيد، فتحته وقرأتُ شيئا منه، فوجدته يُثني على اهتمام زايد بالعمران في الإمارات، وكيف وظّف عائدات النفط عندما أنشأ صندوق أبوظبي للاستثمار، واستطرد الكاتب في حديث طويل وعاطفي حول حب زايد لشعبه، وحب شعبه له.

وقبل أيام أطلق أحدهم وَسْماً على تويتر (Hash Tag) سمّاه «فكّر مثل زايد» ThinkLikeZayed دعا فيه المغردين ليتشاركوا حِكَم الشيخ زايد ومقولاته وصوره ومقاطع الفيديو التي كان زايد يتحدث فيها إلى المواطنين.

ما لفت انتباهي هو أن غالبية مقاطع الفيديو المسجّلة له كانت عبارة عن أحاديث بينه وبين المواطنين، ونادرا ما تجد له مقطعا في مناسبة رسمية، وهذا أحد أسباب قربه من أبناء الإمارات وتعلقهم به.

كلما حاولت معرفة تفاصيل أخرى عن زايد، أضطر إلى التواصل مع أحد كبار السن الذين عاصروه أو كانوا قريبين منه؛ ليحكوا لي عن حياته والمواقف التي اتخذها تجاه قضايا الوطن والأمة، ولكن لم يُخبرني أحدهم، ولم أجد في كتاب واحد، عن المشروع الفكري والتنموي لزايد!

سألتُ أحد أصدقائي: «من هو زايد؟» فوصفه بصفاته الجميلة، ثم أعدتُ السؤال بصيغة أخرى: «ماذا تعرف عن زايد؟» فسكت قليلا ثم سألني عما أقصد، فقلتُ له: «هل تعرف لماذا، وكيف بدأ الاتحاد؟ وما هو دور زايد في تأسيسه؟ ولماذا نجح زايد في توحيد الإمارات وفشل غيره؟»

. فكانت إجابته، كما توقعت، خطبة ثناء ومدح؛ والسبب هو أننا نحب زايد أكثر مما نعرف عنه، والمعلومات الموجودة بين أيدينا هي معلومات رسمية، تدور في نفس الإطار.

إن الرجال العظماء في التاريخ هم الذين فكّروا بما لم يتصوّره به، ثم جعلوه ممكناً، وهؤلاء لابد أن يكون لديهم مشروع إنساني كبير، يقض مضاجعهم في الليل، ويسلب ألبابهم في النهار حتى يحققوه، وهذا ما فعله زايد؛ فلماذا سعى لتوحيد مدنٍ متناثرة على خليج مُحتَل، في تلك الأيام، وهو يعلم بأن ذلك الاتحاد قد يكون عِبْئا ماليا وإداريا على القائمين عليه؟

فإدارة دولة واحدة ضعيفة خير من سبعة ضعاف. لقد كان اتحاد الإمارات مغامرة كبيرة؛ فإلى جانب تردي الأوضاع المعيشية في المنطقة آنذاك، لم تكن في الإمارات خبرات إدارية يرتكز عليها متخذ القرار.

ولذلك فإن فهم العقلية التي انطلق منها زايد هي قضية مهمة جداً لأبناء هذا الوطن، لأنها أصبحت الأرضية المشتركة لجميع الإماراتيين الذين، رغم تعدد لهجاتهم واختلاف بعض تقاليدهم، يشعرون بنفس الانتماء إلى بلدهم سواءً كانوا يعيشون في قرية صغيرة على الساحل الشرقي، أو في وسط العاصمة أبو ظبي.

نحن في حاجة إلى توثيق مرحلة زايد، ليس من ناحية الإنجاز فقط، ولكن من الناحية المعرفية والفلسفية؛ حتى نفهم كيف ولماذا وصلت الإمارات إلى مرحلة متقدمة في الاقتصاد والبنية التحتية والتنمية الإنسانية.

توجد دولٌ في المنطقة أغنى من الإمارات، وأعمق تاريخا منها، ولكن عندما نقارن مستوى دخل الفرد بين المكانين يُشْعرنا الفارق بينهما بأنهما دولتان من زمنين مختلفين، ولذلك فإننا لن نستطيع أن نكرّس تجربتنا الإماراتية في المستقبل، أو نُلهم بها تجارب أخرى في العالم إن لم نوثقها بأسلوب علمي بعيد عن العواطف والمبالغات.

يمكنك أن تجد أكثر من (ستة عشر ألف كتاب) عن إبراهام لنكولن، تفهم من خلالها القيم التي بُنيت على أساسها الولايات المتحدة، ويمكنك أن تفهم سنغافورة جيداً عندما تقرأ كُتُب لي كوان يو، فكل دولة تحمل فكر وروح مؤسسها، ولكننا في الإمارات تعلّقنا بالجوانب الإنسانية لزايد، فأحبه الكبير والصغير، ولكننا لم نُعطِ فِكْره حقه من البحث والتدوين.

نحن في حاجة إلى فهم «مشروع زايد الكبير» والنظر إليه من زوايا تنموية، فزايد لم يبنِ الإمارات من خلال اهتمامه بالتراث والعمران فقط، ولكنه غرس في أرضها همّة وجودية، يشعر بها من يعيش أو يعمل أو يدرس هنا. ونحتاج أن نفهم كيف استطاع زايد أن يجعل من هذه المدن السبع، التي تتمتع إلى حد كبير من الاستقلال الإداري حتى اليوم، دولة واحدة، متداخلة الأمنيات، متكاملة الإنجازات.

عندما تدخل إلى مكتب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات تجد تشكيلة متنوعة من أبناء وبنات الوطن الذين ينتمون إلى مختلف مناطق الدولة، إلا أن قلوبهم واحدة، ويعملون تحت مظلة واحدة، لتحقيق خطة استراتيجية واحدة.

وإذا نظرت إلى سفراء الدولة في الخارج، فستجد بأن بعضهم ينتمون إلى قُرى نائية تابعة للإمارات الشمالية، وآخرون ينحدرون من المدن الرئيسية. ولكي نفهم لماذا وكيف صار الطفل الذي كان يلعب حافي القدمين في قرية جبلية في الستينات، سفيرا لدولة الإمارات اليوم، فعلينا أن نفهم زايد.

Email