الدولة الفلسطينية حلم أم حقيقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

قليلة صفحات التاريخ الفلسطيني التي تكتسب لوناً غير الأسود، إذ لا يكاد يمر شهر إلا ويتذكر الفلسطينيون مأساة وقعت أو مجزرة ارتكبها أعداء أو أشقاء بحقهم، أو نكبة حلت بالشعب والوطن، أو عملية اغتيال أودت بحياة واحد أو عدد من كبار قادتهم، وما تزال صفحات التاريخ مفتوحة على المزيد، طالما لم يحقق الفلسطينيون حريتهم واستقلالهم الوطني. لكن ليس لهذا السبب يحتفل الفلسطينيون بذكرى إعلان استقلال دولتهم، منذ أن وقع ذلك خلال اجتماع عرمرمي للمجلس الوطني في الجزائر، في الخامس عشر من نوفمبر العام 1988.

ثلاثة وعشرون عاماً منذ أن تم إعلان الاستقلال، الذي حظي في حينه باعتراف أكثر من مئة دولة، هي أكثر من نصف عدد أعضاء الأمم المتحدة البالغ عددهم حتى الآن مئة وثلاثة وتسعين دولة، لكن لا هذا الحجم من الاعترافات، ولا استمرار الفلسطينيين الاحتفال بهذه المناسبة سنوياً، أدى إلى هبوط هدف الدولة من الواقع النظري الافتراضي، إلى الواقع الجيوسياسي. ذهب صاحب الإعلان التاريخي الزعيم الراحل ياسر عرفات اغتيالاً على الأرجح، وذهب قهراً صاحب وثيقة الاستقلال، الشاعر الكبير محمود درويش، تلك الوثيقة التي ينظر إليها الفلسطينيون على اعتبار أنها بمثابة دستورهم المؤقت، ولم تذهب أحلام الفلسطينيين وحركاتهم السياسية وغير السياسية، إزاء إمكانية تحقيق دولتهم.

حين تم إعلان الاستقلال، في جو احتفالي وحدوي أحاطته الانتفاضة الشعبية الكبرى التي كانت تدخل عامها الثاني، بجو من الحماس وكثير من المهابة، حين ذاك أخذ بسطاء الجزائريين، يتساءلون عن سبب وجود الفلسطينيين طلاباً أو معلمين أو سياسيين خارج دولتهم التي اعتقدوا أنها ولدت واستقلت للتو، بمجرد أن أعلن المجلس الوطني استقلالها.

وبالتزامن مع إعلان الاستقلال، أعلنت القيادة الفلسطينية عن مبادرتها للسلام، والتي استندت إلى اعتراف المجلس الوطني بقراري الأمم المتحدة رقم 242، 338، كأساس لقبول الفلسطينيين بإقامة دولتهم على حدود الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس، مع ما يقتضي ذلك من اعتراف بحق إسرائيل في الوجود، ونبذ ما يسمى بالإرهاب، وتكييف الميثاق الوطني الفلسطيني مع هذه التغييرات.

هنا وقع خطأ تاريخي، ذلك أن المرجعية القانونية الأكيدة والوحيدة، التي تمنح الفلسطينيين حقهم في إقامة دولتهم على جزء من أرضهم، كان قرار التقسيم لعام 1947، وليس قراري 242، 338، اللذين لا ينصان على قيام دولة فلسطينية. كانت مبادرة السلام الفلسطينية، والقرارات التي استندت إليها والشروط التي وافق عليها الرئيس الراحل ياسر عرفات.

وأدت فقط إلى موافقة الولايات المتحدة على بدء حوار رسمي مع منظمة التحرير الفلسطينية، كان كل ذلك قد شكل تنازلاً كبيراً، قبل أن تبدأ المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية، الأمر الذي ينطوي على خطأ مبدأي، يعود أساسه إلى رغبة القيادة الفلسطينية المتسرعة في استثمار الانتفاضة، وخشية أن تنطفئ جذوتها، فتذهب آثارها سدى بدون نتائج.

وحين تم توقيع اتفاقية أوسلو في حديقة البيت الأبيض في أكتوبر 1993، لم ينتبه المفاوض الفلسطيني، أو أنه لم يتمكن من أن يفرض على الطرف الإسرائيلي أن يكون الاتفاق بين دولة فلسطين ودولة إسرائيل، فلقد تضمنت الوثائق توقيع منظمة التحرير الفلسطينية كحركة تحرر، ثم إن الاتفاق لم يكتسب البعد القانوني الدولي، وبقى اتفاقاً بين طرفين، بدون ضمانات دولية أكيدة.

بعد ثلاث وعشرين عاماً على إعلان الاستقلال، وثمانية عشر عاماً على توقيع اتفاقيات أوسلو، ظل الفلسطينيون يحتفلون بذكرى الاستقلال، لكن ثقة الكثيرين منهم تزعزعت، حول إمكانية تحقيق هذا الهدف، الذي يتحول يوماً بعد آخر إلى مجرد شعار حالم، وخطاب يصلح لإقناع الرأي العام الدولي بواقعية السياسة الفلسطينية. خلال الثمانية عشر عاماً، لم تصل المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية إلى اتفاق.

وكان واضحاً أن إسرائيل استخدمت اتفاقية أوسلو والمفاوضات كغطاء لتقويض الأسس التي يمكن أن تقوم عليها الحقوق الفلسطينية، فالقدس بحسب السياسات والممارسات الإسرائيلية، هي عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل وهي خارج نطاق المفاوضات، وعودة اللاجئين، أمر تتنكر له إسرائيل والولايات المتحدة بدعوى أن الاعتراف بهذا الحق يعني تدمير إسرائيل.

من بين قضايا الحل الدائم الأساسية، بقيت مسألة الدولة الفلسطينية، التي مزقتها السياسات الاستيطانية على الأرض، حيث أحال الاستيطان، وجدار الفصل العنصري والفصل بين الضفة وغزة، وكل منهما والقدس، أحال ذلك الدولة الفلسطينية إلى مجرد كانتونات معزولة عن بعضها البعض. فوق هذا تصر إسرائيل على أن حدودها الأمنية تصل شرقاً، إلى نهر الأردن، أي أن أمن إسرائيل يقتدي الاحتفاظ بمنطقة غور الأردن، التي تصل مساحتها إلى ثلث مساحة الضفة.

إذا أضيفت لها مساحة القدس التي تصل إلى نحو عشرين في المئة من أرض الضفة، فإن إسرائيل في أحسن الأحوال يمكن أن تقبل بدولة فلسطينية على أقل من نصف أراضي الضفة الغربية. هذه مجرد تفاصيل الحل المرحلي بعيد المدى الذي أعلنه شارون، عشية انتخابه رئيساً لحكومة إسرائيل عام 2001، وقال إنه يشمل إقامة دولة فلسطينية على نحو 42% من أرض الضفة، ومنذ ذلك الحين والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تعمل وفق ذلك الحل.

عند هذا الحد، وبسبب انحياز الولايات المتحدة للسياسات الإسرائيلية، وعجز الرباعية الدولية عن توفير بيئة وشروط مناسبة للمفاوضات، تكون مسيرة السلام قد وصلت إلى طريق مسدود، كأمر حتمي يعكس الاختلال الكبير في موازين القوى، وهذا الاستنتاج هو الذي يفسر إصرار القيادة الفلسطينية على الذهاب إلى الأمم المتحدة، بآلياتها ومرجعياتها رغم استمرارها في الحديث عن التزامها خيار التفاوض.

وهكذا فإن المسافة بين إعلان الدولة الفلسطينية كشعار وتحققها على الأرض، قد اتسعت واقعياً، مما يعني أن الصراع قد يعود إلى مربعه الأول، المفتوح على كل الأرض الفلسطينية كصراع وجود وليس صراع حدود.

على أنه إذا كان الطرفان الإسرائيلي الذي يعرف إلى أين تقود سياساته، والفلسطيني الذي يعرف أيضاً، تراجع إمكانية تحقيق أهدافه وثوابته الوطنية التي يلخصها شعار العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، نقول إن الطرفين، غير مستعدين للاستعجال في إعلان هذه الحقائق، بما يستدعيه ذلك من تغيرات جذرية في الاستراتيجيات والخيارات.

 

Email