الولايات المتحدة على مفترق طرق

ت + ت - الحجم الطبيعي

اسمها حركة «احتلوا وول ستريت». عشرات ألوف الأميركيين يحتشدون في مدينة نيويورك غالبيتهم معلمون وقانونيون وأطباء وعمال مصانع، بالإضافة إلى عاطلين مسرحين من شركات ومؤسسات وذلك احتجاجاً على حالة الاقتصاد المزرية.

وبينما تتمدد «العدوى» إلى العديد من المدن الأميركية الأخرى. وتنصب جموع المحتجين في نيويورك خياماً للاعتصام، مما يدل على أنه لا نهاية قريبة للحركة الاحتجاجية. ومع ذلك لا تتدخل قوات الشرطة إلا لماماً وبأقل قدر ممكن من القمع الخفيف.

ظاهرياً يوحي المشهد بعراقة الحريات التي يكفلها نظام ديمقراطي - حرية التعبير وحرية التجمع والتنظيم بوجه خاص. لكن جوهر الاحتجاج الجماهيري في الولايات المتحدة على نحو ما نرى اليوم هو أن النظام الديمقراطي بحرياته الواسعة والعريقة لم يحقق المساواة بين طبقات المجتمع.

فالفجوة أسطورية بين الذين يملكون والذين لا يملكون إذ ان الشريحة الاجتماعية العليا التي لا تمثل سوى «1%» تمتلك أكثر من نصف الثروة القومية، بينما نسبة «99%» المتبقية تعاني شظف العيش النسبي.إذن: ما معنى الديمقراطية؟ وما جدوى الحريات المدنية؟ هذا هو السؤال الأكبر الذي سنحدد الإجابة النهائية عليه مصير الولايات المتحدة إذا قُدر لحركة «احتلوا وول ستريت» أن تتطور إلى مستوى تيار راديكالي كاسح.

قبل «12 عاماً» سقط النظام الاشتراكي العالمي بانهيار الاتحاد السوفييتي وما تبعه من انهيارات متتالية في وقت قياسي للأنظمة الاشتراكية الحاكمة في دول شرق أوروبا. وكانت القوى السياسية الداخلية ومن ورائها من قوى خارجية غربية تبشر بالتحول في روسيا وأوروبا الشرقية بنظام الديمقراطية الليبرالية على النمط الغربي الرأسمالي. وكانت النتيجة النهائية كارثة - كما نرى الآن. فبينما جرى تطبيق الحريات المدنية الديمقراطية وجدت شعوب تلك الدولة أنها دخلت مرحلة من الجوع والبطالة. ولو خيرت هذه الشعوب اليوم عبر استفتاء عام لاختارت العودة إلى النظام القديم.

في ذلك الحين أصدر الفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما كتابه الشهير «نهاية التاريخ» الذي اعتبر فيه أن سقوط المعسكر الاشتراكي السوفييتي يمثل نهاية الخيارات الفكرية للعالم بحيث لم يتبق أمام شعوب العالم حاضر ومستقبل سوى خيار تبني اقتصاد السوق الحر الذي اشتهر باسم النظام الرأسمالي في إطار نظام الحريات الديمقراطية.

لدينا إذن نوعان للحرية: الحرية الاقتصادية والحرية السياسية كوجهين لعملة واحدة أو كمتلازمتين لا فكاك لإحداهما عن الأخرى باعتبار أن كلا منهما جزء مكمل للآخر.

كان هذا تنظيراً ثبت بطلانه عملياً في أكبر نظام للتطبيق الديمقراطي بشقيه. ذلك أنه عبر تراكمات السنين يفرز النظام شريحة رأسمالية تجمع قوة السلطة مع قوة المال - أو السلطة السياسية مع السلطة الاقتصادية فتسود بذلك حالة من اللامساواة الاجتماعية. وهذا ما يفسر لنا طبيعة الاحتجاج الشعبي في الولايات المتحدة الذي ينطلق من حركة «احتلوا وول ستريت».

ظاهرياً يبدو لنا أن القيم الديمقراطية العليا هي التي تحكم توجه ومسار السياسات الداخلية والخارجية. فهناك رئيس جمهورية لا يدخل البيت الأبيض إلا عبر انتخابات رئاسية حرة وشفافة. وهناك برلمان من مجلسين تتكون عضويته من شخصيات تحقق لها الفوز في منافسات انتخابية نزيهة. لكننا لا نرى الصورة الخلفية بوضوح. فالنجاح على مستوى الانتخابات بشقيها الرئاسي والبرلماني لا يتحقق إلا بالمال.

والشركات الكبرى الاحتكارية هي التي تقوم على توفير التمويل، وتكون النتيجة انتخاب رئيس لا هاجس له سوى توظيف مؤسسة السلطة العليا لمصالح الشركات الكبرى بما فيها النظام المصرفي وانتخاب مجموعة أعضاء لمجلسي الكونغرس تتحول إلى «لوبيات» يقوم كل منها على خدمة قطاعات الشركات التي وفرت له الفوز. وقس على هذا المنوال انتخابات حكام الولايات.والسؤال الكبير الذي يُطرح هو: لماذا تفجرت حركة الاحتجاج الشعبي في المدن الأميركية اليوم - أو لماذا لم تنطلق حركة على غرار «احتلوا وول ستريت» قبل عشرات السنين.

للتوقيت مغزى

على مدى عقود زمنية كانت ظاهرة سيطرة رأس المال على مؤسسة السلطة وما يتبعها من ظاهرة عدم المساواة في توزيع موارد الثروة القومية قد تبلورت. ولكن في غياب حركة نقابية قوية كانت المعارضة الشعبية ضعيفة. أضف إلى ذلك الدور الذي لعبته وتلعبه الوسائل والشبكات الإعلامية الأميركية التي بدورها تملكها شركات كبرى أيضاً في التضليل الذكي.

 

Email