هكذا يكون الاستثمار

ت + ت - الحجم الطبيعي

الإنجاز الذي حققته فلسطين نهاية الشهر الماضي، بقبولها عضواً كامل العضوية في منظمة اليونسكو، يقدم نموذجاً مهماً، للاستثمار السياسي للظروف والمتغيرات التي تحيط بالقضية الفلسطينية.

الحديث يدور عن واحدة من أهم مؤسسات الأمم المتحدة، وعن معركة سياسية وحقوقية وأخلاقية، حامية الوطيس، جردت خلالها الولايات المتحدة الأميركية كل إمكانياتها لمنع الفلسطينيين من تحقيق هذا الإنجاز.

تحقيق مثل هذا الإنجاز وبحجم انتصار فلسطين، وهزيمة الولايات المتحدة، التي تنطحت للدفاع عن إسرائيل، كان له أسبابه وهي بداية احتلال القيادة السياسية لإرادة خوض المعركة، والإصرار على متابعتها بدون تردد حتى النهاية.

والحقيقة أن توفر مثل هذه الإرادة الصلبة، ما كان لها أن تحقق لولا أن الفلسطينيين خاضوا لسنوات طويلة معركة السلام والمفاوضات وأبدوا مرونة عالية، ولدت لدى المجتمع الدولي، قناعات بأن إسرائيل هي التي تتحمل المسؤولية الكاملة عن فشل مسار السلام، وبأن سياسات الوسيط الأميركي كانت منحازة كلياً لإسرائيل، مما أدى إلى عجزها عن المساعدة في تحقيق السلام.

أما السبب الثاني فيتصل بتوفر إرادة عربية جامعة، وقفت بقوة خلف الموقف الفلسطيني الذي نقل ملف الصراع من ساحة الرباعية الدولية، إلى ساحة الأمم المتحدة. هذا يعني أن العرب قادرون إذا حزموا أمرهم، على الدفاع بقوة عن حقوقهم، فإذا كانت الولايات المتحدة ستقطع مساهمتها في موازنة اليونسكو، والتي تصل إلى سبعين مليون دولار سنوياً، فإن العرب يفترض أن يكونوا مستعدين لتعويض هذا المبلغ لصالح اليونسكو.

إن تقدم المجموعة العربية، نحو تحمل مسؤولياتها السياسية والمادية تجاه المؤسسات الدولية التي تتعرض لضغوط أميركية، من شأنه أن يشجع الكثير من الدول على حسم مواقفها لصالح الحقوق العربية، فالولايات المتحدة ليست القدر المحتوم لشعوب الأرض، وهي لم تعد الآمر الناهي لقضايا المجتمع الدولي.

ثالث هذه الأسباب، يكمن في امتلاك الفلسطينيين والعرب مصداقية القول والعقل، فحين يصدر قرار جماعي، يتجند الكل لتنفيذ مثل هذا القرار، وقد فعل الفلسطينيون والعرب ذلك هذه المرة بخلاف ما هو معروف عنهم من انفصال الأفعال عن الأقوال.

إن شئنا الحق، فإن هذا التغيير في كيفية تعامل العرب مع قضاياهم القومية، إنما يعكس بهذا القدر أو ذاك، طبيعة وجوهر المتغيرات التي تعصف بالمنطقة العربية تحت عنوان الربيع العربي، حيث لم تعد الجماهير العربية تغفر لقياداتها وزعاماتها، تخاذلهم، وترددهم إزاء القضايا العربية الكبرى.

لقد أظهر التصويت الذي حصلت خلاله فلسطين على تأييد مئة وسبعة دول مقابل اعتراض أربع عشرة دولة فقط، وامتناع سبعة وأربعين دولة عن التصويت، ما يعني أن القرار حصل على أكثر من ثلثي أعضاء المنظمة الدولية، نقول إن هذا التصويت أظهر عزلة إسرائيل على المستوى الدولي، وعجز الولايات المتحدة عن حمايتها.

من المهم أن نلاحظ تحول مواقف بعض الدول الداعمة لإسرائيل تاريخياً، والمحسوبة على تحالف تاريخي مع الولايات المتحدة الأميركية، مثل فرنسا واسبانيا، والنرويج، وبلجيكا والنمسا، وهم أعضاء فاعلون في الاتحاد الأوروبي، مما يعني ضرورة العمل لدفع وإنضاج هذه التحولات، لتجريد إسرائيل من تحالفاتها الدولية.

إن التصويت باعتباره في أحد جوانبه يشكل استطلاع رأي دولي، يؤكد أن المجتمع الدولي، يضيق ذرعاً بالسياسات الاحتلالية والعدوانية الإسرائيلية، وأنه لم يعد يحتمل دفع فاتورة الجنون الإسرائيلي، على حساب مصالح ورغبات الدول.

وبطبيعة الحال، فإن معركة الفلسطينيين في مجلس الأمن الدولي للحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة، تحتاج إلى مواصلة التمسك بالإرادة، وإلى مواصلة العمل بقوة، ذلك أن النجاح في اليونسكو لا يعني بالضرورة نجاحاً أوتوماتيكياً في مجلس الأمن، ولكنه من ناحية أخرى يعني أن بالإمكان تحقيق إنجاز مماثل.

وإذا جاز لنا أن نضيف نجاح فلسطين في الحصول على عضوية كاملة في اليونسكو، إلى إنجاز صفقة تبادل الأسرى، وقبلها الإنجاز الذي حققه الرئيس محمود عباس على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، فإن على الفلسطينيين أن يمتلكوا إرادة تحقيق الإنجاز الأهم والأساس، وهو استعادة الوحدة الفلسطينية.

إن استمرار حالة المراوحة على صعيد تحقيق المصالحة الوطنية، لا شك أنها تؤثر سلباً على وحدة الشعب الفلسطيني، وربما أيضاً على إرادة ووحدة الموقف العربي، خصوصاً وأن الولايات المتحدة ما تزال تملك القدرة على التأثير في مواقف العديد من الدول العربية.

في الواقع، لم تعد لدى أطراف الانقسام أية ذرائع لتأجيل إنجاز المصالحة الفلسطينية، خصوصاً بعد أن أطلق الطرفان تصريحات تؤكد عزمهما على متابعة الحوار والمصالحة، وعلى ضرورة الاتفاق على استراتيجيات جديدة، الأمر الذي غاب عن الوثيقة المصرية التي تم التوقيع عليها، وطالما أن ما تحقق من إنجازات تندرج في سياق الربيع الفلسطيني كما يقول الرئيس محمود عباس، فإن على الفلسطينيين أن يتفقوا على بناء القوة القادرة على مواصلة تحقيق المزيد من الإنجازات، وإلا فإن الربيع الفلسطيني سيكتسب طابعاً مختلفاً، يكون للشعب فيه القرار.

 

كاتب فلسطيني

Email