معمر القذافي.. حالة نفسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

عند أواخر عام 1970، عقدت في القاهرة قمة ثلاثية جمعت العقيد معمر القذافي مع كل من الرئيس المصري أنور السادات والرئيس السوداني جعفر نميري.. وبناء على رغبة الزعيم الليبي، كان الاجتماع مغلقاً وسرياً، حتى أن وزراء الخارجية لم يُسمح لهم بالمشاركة.

تلك كانت أيام الوحدة بين هذه الدول العربية الثلاث تحت مظلة «ميثاق طرابلس»، ولاحقاً صار أمر القمة الثلاثية السرية معروفاً. فض ذلك الاجتماع «أمر» العقيد القذافي للرئيس السوداني، بأن يفصل ثلاثة من أعضاء مجلس الثورة السوداني، كان القائد الليبي يعتبرهم «شيوعيين مخربين». وفور عودته من القاهرة إلى الخرطوم، نفذ الرئيس نميري الأمر دون تردد. فقد كان يأمل خيراً للسودان عبر ميثاق الوحدة، مراهناً على أموال النفط الليبية. وهكذا أيضاً كان الرئيس السادات يأمل خيراً لمصر.

ومرت الأيام دون أن يتلقى السودان أو مصر من ليبيا العقيد سوى أوامر وتعليمات، من قبيل افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا.. ولعل نميري والسادات توصلا إلى قناعة نهائية، بأنه لو كان يرجى من العقيد أي خير لرفع من شأن بلاده أولا.

ومع مرور السنين تجلت خصائص شخصية العقيد معمر القذافي للملأ، فهو لم يكن يؤمن بأي أيديولوجية أو أي مبدأ. كانت أبرز خصائصه النرجسية وعجب النفس، اللتين توقظان أشد نوازع الاستبداد والتسلط. وهو تسلط لم يكن مقصوراً على الشعب الليبي، بل كان عابراً للحدود.. فقد كان العقيد يرى نفسه في ميثاق طرابلس رئيساً للرؤساء. ومع تمكن النزعة النرجسية في نسيج شخصيته العليلة، اعتبر نفسه «عميد القادة العرب» و«ملك ملوك» إفريقيا.

الاستبداد التسلطي هو بالطبع الصبغة العامة للعالم العربي، فالأنظمة الاستبدادية هي القاعدة وليست استثناءً. ولكن استبداد القذافي كان من طراز فريد.

الطاغية العربي يمارس الاستبداد اليومي، من أجل تسخير جهاز السلطة لمصلحة شخصية له ولمحاسيبه من زبانية ورجال أعمال، أو من أجل خدمة قوة خارجية، أو كليهما. لكن القذافي كان يمارس التسلط من أجل إشباع شهوة شخصية مريضة، يصح أن نطلق عليها شخصنة الحكم. ولذا لم يكن القذافي، على عكس رصفائه العرب، صاحب فكر استراتيجي. ولهذا أيضا كان منفصما عن الواقع، سواء الواقع الليبي أو الواقع العالمي.

على مدى أربعة عقود، لم تكن للقذافي حسابات استراتيجية، لأنه لم تكن له أهداف ذات طبيعة استراتيجية، ولو من قبيل حُب البقاء. وحتى اللحظة الأخيرة من حياته، لم يزايله الانفصام عن الواقع. وعندما وقع في الأسر الأسبوع الفائت، شهد له الثوار أنه في تلك اللحظة لم يكن خائفاً. الأرجح أنه من فرط انفصامه، كان في تلك اللحظة الخطيرة مندهشاً وعاجزاً عن استيعاب خطورة اللحظة.

على الصعيد الخارجي، لم يشأ القذافي خلال عقود أن يدرك طبيعة الصراع في الساحة الدولية، ورغم أنه في مبتدأ عهده بسلطة الحكم كان يعتبر نفسه خليفة لجمال عبد الناصر، إلا أنه لم يكن له أي حظ مثل تلك البراعة الاستراتيجية الناصرية.

على مدى عقدي الخمسينات والستينات، عرف عبد الناصر كيف يستغل لصالح شعبه والأمة العربية، تناقضات الصراع الدولي باتخاذه علاقة تحالفية متينة مع المعسكر الاشتراكي السوفييتي، في مواجهة المعسكر الرأسمالي - الإسرائيلي بقيادة الولايات المتحدة.

أما العقيد القذافي فقد قادته عنجهيته الفجة إلى افتعال عداء غير موضوعي مع الاتحاد السوفييتي، في الوقت الذي كان ينتهج سياسة عدائية أيضا ضد الولايات المتحدة والغرب عموماً. وهذا مما شجع واشنطن في عهد الرئيس رونالد ريغان، لأن تشن على ليبيا هجوماً عسكرياً كاسحاً عند منتصف الثمانينات، لإدراكها أن ليبيا العقيد ليس لها أي سند من الطرف الدولي الموازي للغرب. ولم يدرك القذافي حاجته إلى استغلال تناقضات الصراع الدولي، إلا بعد فوات الأوان. فبعد الهجوم الأميركي تقدم العقيد بطلب إلى موسكو للانضمام إلى عضوية المعسكر السوفييتي. ولم ترد عليه موسكو، فقد كان الاتحاد السوفييتي آنذاك يتدهور سريعا على طريق التفكك النهائي.

هل سيدخل القذافي التاريخ؟ نعم، ولكن ليس كطاغية ذي مبدأ أو أيديولوجية أو حتى مصلحة، وإنما كحالة مرضية فريدة، ليس لها أي حظ أو حد أدنى من الفكر الاستراتيجي، ولو حتى بمقاييس غريزة البقاء.

لقد تولى سلطة الحكم كضابط انقلابي، وهو شاب في الثامنة والعشرين.. ورحل عن السلطة والدنيا وقد دخل العقد السابع من العمر، دون أن يطرأ على شخصيته أي تحول إيجابي.

 

كاتب صحافي سوداني

Email