أميركا وقيادة العالم

ت + ت - الحجم الطبيعي

أظهر استطلاع حديث للرأي، أن غالبية الأوروبيين يريدون للولايات المتحدة أن تواصل ممارسة "دور قيادي قوي في الشؤون العالمية". ويتساءل المرء عن سبب الثقة الكبيرة التي توليها أوروبا للولايات المتحدة في الوقت الحالي، الذي لم يعد فيه الأميركيون، المحاصرون في مأزق وطني عميق، يثقون بأنفسهم إلى حد كبير!

وفي الاستطلاع الذي أجراه صندوق مارشال الألماني التابع للولايات المتحدة، سئل الأوروبيون في 12 دولة عن نظرتهم لدور أميركا على مستوى العالم، وقد أعرب 54% منهم عن تأييدهم لاستمرار القيادة الأميركية، وهو رقم لم يتغير على مدى السنوات القليلة الماضية.

ولم يكن الوضع دائماً على هذا الحال. ففي عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، أظهرت الاستطلاعات أن نسبة الأوروبيين الذين كانوا يقدرون القيادة الأميركية لم تتجاوز الثلث، وذلك ليس بالأمر الغريب، نظرا لحربي بوش الفاشلتين.

إن وسائل الإعلام اليوم متخمة بالسياسيين والمتكهنين، الذين تنبأوا جادين بانحدار أميركا النهائي. وقبل بضعة أيام، أخبرني أحد أصدقائي، وهو دبلوماسي أميركي سابق، أنه يخشى أن تكون الولايات المتحدة "تسير نحو لحظة "شرق سويس" بريطانية". وتلك العبارة، التي تشير إلى الانسحاب الكئيب للقوات البريطانية من عدن في اليمن عام 1967، أصبحت اختصاراً لسقوط الامبراطورية البريطانية.

في الحقيقة، لدي وجهة نظر أكثر تفاؤلًا. فهذه اللحظة المظلمة على نحو لا سبيل إلى إنكاره، تبدو لي كفقاعة سامة، وليس كوضع دائم، إذ إن اقتصادنا وسياستنا وحالتنا الذهنية، كلها تبدو سامة. وفي الواقع، ذلك يذكرني بعام 1979، الذي كان فيه وضع الأميركيين متدهوراً كذلك.

حادثة ووترغيت، والخسارة العسكرية في فيتنام، وأزمة الطاقة عام 1979، وهي الأزمة الثانية في ذلك العقد، كل ذلك دفع الأميركيين إلى الاعتقاد بأن حقبة العظمة الأميركية وصلت إلى نهاية مشينة. وكما هي الحال في الوقت الحاضر، فقد كان الاقتصاد متعثراً، ولكن لأسباب مختلفة، حيث عانت الولايات المتحدة من تضخم جامح، وصلت نسبته إلى 13.3% عام 1979، مما نتجت عنه معدلات فائدة قياسية على المدخرات والديون على حد سواء. وكان معدل البطالة يقترب من 10%، وصاغ الاقتصاديون مصطلحاً جديداً لوصف ذلك الوضع المحزن، وهو الركود التضخمي. وفي العام التالي، سقطت الولايات المتحدة في هاوية الركود.

ولكن سرعان ما نهضت الولايات المتحدة بسرعة نسبياً، من تلك الأزمة، مظهرة أن ما احتاج إليه الأميركيون كان قائداً قوياً. والكثير من الذين عايشوا تلك الفترة لا يزالون يستخفون غاضبين بخيارات الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، في ما يتعلق بالسياسة، ولكن لا أحد يستطيع أن يقول إنه لم يكن رئيساً قوياً ومصدر إلهام. فقد كانت لديه قدرة على حشد الأميركيين وبث الحيوية فيهم، أكبر بكثير من قدرة سلفه متبلد الحس. وكما يحصل دائماً، فقد انتعش الاقتصاد بالفعل، وبحلول عام 1983 كان معدل التضخم قد انخفض إلى 3.8%، وكان الناتج المحلي الإجمالي ينمو بمعدل يقرب من 7%. وحينها استعاد الأميركيون ثقتهم بأنفسهم وبدولتهم.

ليس القصد من هذا أن يكون أنشودة شكر لريغان، فقد كنت مراسل البيت الأبيض لصحيفة "نيويورك تايمز" عندما كان رئيساً، وقد تسبب ريغان بضرر كبير أيضاً، حيث أدت سياساته إلى تفاقم الدين الوطني، أكثر مما تسبب به أي رئيس أميركي سابق منذ فرانكلين روزفلت، الذي اضطر لدفع ثمن الحرب العالمية الثانية، بل وأي رئيس حديث، باستثناء جورج بوش، إذ ارتفع الدين الوطني بنسبة 21% في عهد ريغان (و28% في عهد بوش).

وكما كانت الحال عام 1979، فإن الولايات المتحدة تفتقر اليوم إلى قائد قوي وملهم، ولا يبدو أن أياً من المرشحين الجمهوريين سيكون كذلك. وآمل أن يثبت الرئيس الأميركي باراك أوباما أو أحد الجمهوريين، أنني على خطأ. ولكن حتى الآن، سمحت القيادة الضعيفة لأقلية أيديولوجية عنيدة في الكونغرس، بشل الحكومة من خلال تركيز كامل الاهتمام على هاجسها الوحيد، وهو الديون الاتحادية. هذه الديون هي مشكلة بالتأكيد، ولكن انظروا إلى العالم من حولكم، وستجدون العشرات من الدول، 31 دولة إجمالاً، لديها نسب أعلى من الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. ومن ضمنها، طبعاً، اليونان وإسبانيا وإيطاليا وايرلندا، وهي الدول القابعة في قلب أزمة الديون الأوروبية، فضلاً عن ألمانيا وإسرائيل وكندا. ولا يرتفع دين الولايات المتحدة عن المتوسط العالمي، إلا بدرجة قليلة.

فهل ينبغي أن تشكل الديون الآن محط الاهتمام الأساسي لسياسة الحكومة مع هذا العدد الهائل من العاطلين عن العمل؟ لا يبدو أن الأميركيين يعتقدون ذلك. ففي استطلاع أجرته أخيراً صحيفة "واشنطن بوست" وشبكة "ايه بي سي نيوز"، لم تتجاوز نسبة الأميركيين الذين أبدوا تأييدهم لما يقوم به الكونغرس 14%، في حين وصلت نسبة الذين أبدوا اعتراضاً شديداً إلى 62%.

ربما يتعين على الأميركيين أن يبدأوا بالنظر إلى أنفسهم كما ينظر إليهم الأوروبيون، أي كما أظهر ذلك الاستطلاع، على أنهم أمة مثيرة للإعجاب ولا يمكن الاستغناء عنها، ومقدر لها أن تقود العالم.

 

Email