ملامح الربيع الفلسطيني

ت + ت - الحجم الطبيعي

صفقة تبادل الأسرى التي وقعتها حركة حماس مع إسرائيل بوساطة مصرية- ألمانية، وتم تنفيذ مرحلتها الأولى يوم الثلاثاء الماضي الثامن عشر من الشهر الجاري، فيما يتم تنفيذ مرحلتها الثانية بعد شهرين، تلك الصفقة تحظى بأهمية تاريخية، نظراً لما تنطوي عليه من أبعاد سياسية وقيمية وأخلاقية، وأمنية ولما تؤشر إليه من تغييرات أساسية. هذه الصفقة التي سيتم بموجبها الإفراج عن ألف وسبعة وعشرين أسيراً وأسيرة فلسطينية مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، تنفرد من بين صفقات التبادل العديدة التي وقعت خلال مرحلة الصراع السابقة، بكونها، العملية الأولى التي تقع داخل الأراضي المحتلة من قبل إسرائيل.

فإذا كانت عمليات التبادل السابقة، قد وقعت نتيجة لعمليات عسكرية خارج حدود فلسطين التاريخية، أدت إلى أسر جنود، أو جثث جنود إسرائيليين، فإن هذه العملية، قد نجمت عن عملية عسكرية ناجحة وقعت في الخامس والعشرين من يونيو 2006، على الحدود بين قطاع غزة وإسرائيل التي اعترفت في حينه بالقصور الأمني. غير أن أهمية عملية أسر الجندي الإسرائيلي، وما نجم عنها من صفقة تبادل كبيرة من المستوى الذي وقع، تؤشر إلى فشل أمني وعسكري إسرائيلي خطير، استمر لأكثر من خمس سنوات، هي الفترة التي قضاها شاليط في الأسر الفلسطيني.

لم يكن خيار حكومة نتانياهو، وحكومة سلفه إيهود أولمرت، أن تضطر إسرائيل إلى إبرام صفقة تبادل للأسرى، غير أن فشلهما في التوصل إلى معلومات بشأن شاليط، رغم كل ما قامت به، وما تملكه من إمكانيات استخباراتية، أن ذلك الفشل هو الذي أرغم إسرائيل إلى القبول بالحل الذي لابد منه، حتى لا يكون مصير شاليط كما مصير الطيار الإسرائيلي رون أراد، أي الموت كما يقول بنيامين نتانياهو.

وعدا عن ذلك، تضطر إسرائيل للإفراج عن نحو ثلاثمائة أسير فلسطيني من ذوي الأحكام العالية، والذين قضوا سنوات طويلة في الأسر، الأمر الذي ينطوي على تغيير إجباري في معايير التعامل مع من كانت إسرائيل ترفض الإفراج عنهم، بدعوى أن أياديهم ملطخة بدماء الإسرائيليين.

لهذا السبب ولأسباب عنصرية، يرى الحاخام الإسرائيلي الأكبر، السابق، بأن على إسرائيل أن تقتل من يسميهم بالإرهابيين الفلسطينيين ذوي الأيدي الملطخة بدماء الإسرائيليين حتى لا تضطر للإفراج عنهم في أوقات لاحقة.

إسرائيل كانت ترفض أن تشمل صفقات التبادل، أسرى فلسطينيين من حملة الهوية المقدسية، ومن أبناء الأراضي المحتلة عام 1948، ومن الجولان السوري المحتل، لكنها هذه المرة رضخت تحت وطأة الحاجة لإبرام هذه الصفقة وطي ملف الأسير شاليط.

إن تدقيق النظر في هذه التغييرات، التي تجاوزت إسرائيل من خلالها خطوطها الحمر، وقوانينها العنصرية، إنما تستكمل تأكيد المؤشرات التي تذهب للاستنتاج بأن إسرائيل التي تعاني من جملة أزمات كبرى، هي اليوم أضعف مما كانت عليه في أي وقت مضى، وهو ما تعترف به أوساط المعارضة الإسرائيلية.

فإسرائيل اليوم تعاني من أزمة داخلية، على خلفية الاحتجاجات الواسعة بسبب الأزمة الاقتصادية، التي تشكل تواصلاً مع أزمة النظام الرأسمالي، وكان قرار بنيامين نتانياهو بالموافقة على صفقة التبادل يستهدف من بين جملة أهداف، تهدئة الجبهة الداخلية، وهو ما قد حصل فعلاً، حيث تراجعت حركة الاحتجاجات الداخلية، وإن كان ذلك لبعض الوقت.

وتواجه إسرائيل أيضاً أزمة على المستوى الدولي، حيث يشكو الكثير من مسؤوليها جراء العزلة الدولية، التي دفعها إليها الفلسطينيون حين قرروا التوجه بملف الدولة إلى الأمم المتحدة، وكان ذلك بسبب مسؤولية إسرائيل الواضحة عن فشل مسار المفاوضات، ومسؤوليتها عن مواصلة سياساتها العدوانية والاستيطانية والتهويدية للأراضي والمقدسات الفلسطينية.

ولعل من المهم في هذا السياق ملاحظة القلق الإسرائيلي المتزايد والعميق إزاء التغيرات التي تعصف بالعالم العربي، والتي تؤشر إلى تنامي روح العداء لإسرائيل والولايات المتحدة، وتتجه نحو إعادة تأكيد مكانة القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية والأولى للأمة العربية.

في القلب من هذه التغيرات، تهتم إسرائيل بعلاقتها مع مصر، ومع تركيا، ولذلك كان من بين الدوافع الإسرائيلية، لتوقيع اتفاقية التبادل، الحاجة لتبريد حالة التوتر مع كلا البلدين، وقد لاحظنا أن إسرائيل أقرنت موافقتها على الصفقة بإعلان اعتذارها رسمياً عن مسؤولية جنودها إزاء قتل خمسة ضباط وجنود مصريين قبل بضعة أشهر.

على أن هذه المؤشرات والدوافع التي تشير إلى تراجع قوة ومكانة وقدرة إسرائيل على ممارسة العدوان، والردع، تعني أن إسرائيل الضعيفة هي إسرائيل خطيرة، ولذلك من المتوقع أن يؤدي هذا الوضع إلى تصعيد اعتداءاتها على الفلسطينيين والتمسك بعنادها إزاء حقوقهم الوطنية، بل إن إسرائيل قد تزج الولايات المتحدة في مغامرات حربية إقليمية، تحت وطأة الشعور بالخطر على وجودها.

في المقابل، يتحدث الرئيس محمود عباس عن الربيع الفلسطيني، الذي بدأ بالتوجه إلى الأمم المتحدة في الشهر الماضي، وأتبع، بصفقة التبادل التي تتسم بطابع تاريخي، لتشكل إنجازاً آخر، يقول الرئيس عباس إن إنجازاً قريباً آخر سيتبعه حين ينجح في تأمين الإفراج عن مئات أخرى من الأسرى الفلسطينيين.

على أن أجواء الفرح والأمل التي سادت أوساط الفلسطينيين بصفقة شاملة وعامة ارتباطاً بصفقة التبادل، ستظل رهناً بتحقيق الإنجاز الأكبر والأساسي بالنسبة للمواطن الفلسطيني، وهو إنجاز الوحدة الفلسطينية الحقيقية التي تتجاوز الخطابات النارية والشعارات البراقة.

وفي الواقع فإن هذه الإنجازات بقدر ما أنها تخلق مناخات إيجابية أفضل بالمعنى السياسي، والشعبي، فإنها قد تؤدي إلى تعويق المصالحة الفلسطينية، ما لم تتابع مصر دورها على هذا الصعيد، وبعد أن نجحت في إقفال ملف شاليط، وحققت تقدماً في ملف معبر رفح والحصار المفروض على القطاع.

Email