أغلقوا المدارس وافتحوا تويتر

ت + ت - الحجم الطبيعي

قال لي صديق، كان طالباً في المدرسة في ستينات القرن الماضي، إن المدارس كانت في تلك الفترة أكثر احتضاناً لقضايا الأمة العربية وأكثر تفاعلاً معها منها اليوم؛ حيث كان مدير المدرسة يبث كل صباح عبر مكبرات الصوت أغنية «أخي جاوز الظالمون المدى، فحقّ الجهادُ وحقّ الفِدا» بصوت محمد عبد الوهاب، التي ألّفها الشاعر المصري على محمود طه؛ فكانت تلك الأغنية كفيلة باستنهاض مشاعر العروبة في داخلهم.

وتزيد من لهفتهم لمعرفة أخبار القضية الفلسطينية وآخر تطورات الصراع مع الكيان الصهيوني المحتل. ولم يتوقف اهتمامهم على الأخبار التي كان يرويها لهم الأساتذة في الفصل، بل كانوا يحرصون، لا إرادياً، على الاستماع إلى الراديو طوال اليوم لدى أحد الجيران. ثم ختم كلامه بقوله: «كُنّا قوميين أكثر من القومية ذاتها".

وعلى الرغم من أن عبد الناصر قد حطّم أحلام جيلٍ بأكمله بعد النكسة، وعزز الروح الانهزامية في الكيان العربي عندما اكتشف الناس بأنه كان يمارس ديكتاتورية مغلّفة بخطابات وطنية، إلا أنه كان من أوائل الذين أشعلوا فتيل المواجهة مع المحتل، ولا ندري ماذا كانت نيته من تلك الفوضى العارمة التي جاء بها، ولكننا نأخذ بالنتائج وليس بالنوايا، وما المشكلات السياسية والاقتصادية التي تمر بها مصر اليوم إلا تركة متوارثة منذ أيام عبد الناصر إلى حد بعيد.

ولكنه نجح في جعل الأمة من شرقها إلى غربها تعيش حالة استنفار نفسية تجاه قضيتها الكبرى آنذاك وهي مقاومة الاحتلال في مختلف أرجاء الوطن العربي؛ فأصبح الهمّ المشترك لأبناء الأمة أكبر من الهموم الفردية والقُطْرية، وكان للمدارس دور رئيس في تعزيز ذلك السياق الفكري العربي العام، ليس عن طريق المناهج فقط، بل عن طريق المعلمين أيضاً.

ثم انشغلت الدول العربية بمشكلاتها السياسية والاقتصادية على مدى أربعة عقود، فقدت خلالها القضايا العربية بريقها شيئاً فشيئاً، فلم تعد فلسطين تعني أحداً، وأصبحت كثير من الأنظمة العربية أكثر فوضوية وبطشاً من عبد الناصر، فتقوقعت الشعوب على مشكلاتها الداخلية.

وانشغل كثير منها في لعق جراح الديكتاتورية والفقر، وتحولت المدارس إلى مؤسسات لتمجيد السلطة بمحاسنها ومساوئها، إلى أن جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير على وجه التحديد لتكسر كثيرا من حواجز الخوف والانهزامية؛ فعاد الاهتمام بقضايا الأمة إلى الساحة مرة أخرى، ما عدى القضية الفلسطينية، ولكن هذه المرة لم تكن المدارس هي السبب، بل شبكات التواصل الاجتماعي، التي يبدو أنها آخذة في تعزيز فكرة القومية العربية الحقيقية، وليس قومية عبد الناصر الفاشية.

قد يوجد في مناهج المدارس اليوم ما يتحدث، باقتضاب، عن المسجد الأقصى والقدس، ولكن الكتب لا تبني القناعات عند الطلبة بل المدرسون من يفعلون ذلك. فالمعلّم الذي يحمل قضايا أمته ينشئ جيلاً أكثر وعياً منه، وأكثر طموحا من أجل البناء والتطوير. لقد أصبح همّ المعلمين الشرفاء اليوم هو إتقان تعليم الطلبة المنهاج الدراسي ورفع كفاءاتهم العلمية، ولكن قلّما تجد طالب يتأثر بمعلمٍ أو معلّمة على الصعيد الفكري والأيديولوجي، ربما لأن المعلمين صاروا منكفئين أيضاً على مشكلاتهم الداخلية.

أتابع على تويتر وفيسبوك قضايا في الكويت والسعودية والبحرين عن كثب، وأتفاعل مع تلك القضايا وكأنني أحد المشاركين أو المتأثرين مباشرة بها، حيث أشعر بتقاربٍ في المصير وفي الأفكار وفي الطموحات مع أصدقائي الجدد الذين ألتقيهم على تلك الشبكات الافتراضية التي أعتقد بأنها صارت أكثر واقعية من العالم الذي أعيشه.

صرتُ أعرف عن الكويت مثلما يعرف الكويتيون، وبتُ أبحث عن مستجدات القضايا في السعودية مثلما يفعل السعودي كل صباح، وصار ما يجري في البحرين يهمّني كأي بحريني يعيش هناك. إن هذا التماهي مع قضايا المحيط الذي أعيش فيه هو القومية الحقيقية التي عجز القوميون عن تحقيقها؛ فلم نعد في حاجة إلى أغاني وطنية أو خُطَبِ عصماء لكي نعيش مع الشارع المصري قضاياه ومعاناته وأحلامه اليومية، بل يكفي أن نتابع أحد النشطاء المصريين على تويتر لنعيش الحدث كل يوم ونعي ما يحصل في الشارع دون تزييف.

إحدى أزهار الربيع العربي هو هذا التواصل غير المسبوق بين أبناء الأمة العربية على الإنترنت؛ مما أدى إلى إيجاد حالة وعي جديد، وخصوصا لدى الشباب، بما يتعلق بالمصير القادم الذي صار «مُشْتَرَكاً» بواقعية، ولم يعد كلاماً يزين خطابات الشجب والاستنكار.

لقد صار تويتر مدرسة جديدة يدرس فيها الجيل العربي الجديد، ولكنها مدرسة دون معلّمين، فالكل يتعلم من الآخر، ولا مكان فيه للأستاذية الكلاسيكية القائلة بأن المُعلّم أكثر علما من المُتعلّم. لستُ أروّج هنا لتويتر، فلقد فعلتُ ذلك سابقاً وقضي الأمر، ولكنني أرّوج الآن للقومية التويترية، وأدعو كل من يقرأ هذا المقال ولم يدخل تويتر حتى الآن أن يفعل ذلك على الفور، حتى ينطبق علينا قول على محمود في نفس القصيدة:

أخي، أيهـــا العربيُّ الأبيُّ... أرى اليوم موعدنا لا الغـدا

Email