مخطط «السودان الجديد» الفصل الثاني

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحرب الطويلة التي شنتها الحركة المسلحة في جنوب السودان ضد الشمال، انتهت ـ كما هو معلوم ـ إلى انفصال الجنوب، ولكن الهدف الاستراتيجي الأعظم الذي تتبناه الولايات المتحدة لتصفية الهوية العربية للشمال، لم يتحقق.

الآن وبعد بضعة شهور من انفصال الجنوب وقيام الدولة الجنوبية المستقلة، تتجدد الحرب، وإن على نحو مختلف، بمساندة أميركية ضد دولة الشمال العربية، باسم مشروع «السودان الجديد».

انطلقت الحرب الثانية من ولايتين ـ ولاية جبال النوبة جنوب كردفان وولاية الانقسنا جنوب النيل الأزرق ـ تقعان جغرافيا في أقصى جنوب الشمال، على الخط الحدودي الفاصل بين جمهورية السودان (الشمال) وجمهورية جنوب السودان الوليدة.

الواجهة السياسية لهذه الحرب الجديدة، تطلق على نفسها «الحركة الشعبية لتحرير السودان» قطاع الشمال. ولإدراك المغزى، علينا أن نعيد إلى الأذهان أن هذا هو اسم الحركة المسلحة الجنوبية، التي أسسها وقادها جون قرنق، قبل أن تنتقل قيادتها بعد وفاته في عام 2005، إلى نائبه سلفا كير ميارديت الرئيس الحالي للجمهورية الجنوبية المنفصلة.

ولإدراك المزيد من شواهد المغزى، علينا أن نستذكر أيضا أن مشروع السودان الجديد من ابتكار قرنق نفسه، في سياق بغضه لعروبة الشمال. وعلى هذا النسق كان المشروع يقضي بإنشاء جبهة قتالية عنصرية، تتكون من الأقليات السودانية غير العربية، لمجابهة الأغلبية العربية في الشمال وكسر شوكتها، من أجل إقامة نظام سلطوي جديد، بموجب معادلة حكم تقنن دستورياً سيطرة مجموعة الأقليات بقيادة «الجبهة الشعبية» الجنوبية، على جهاز السلطة ومؤسساتها. هذه الأقليات تشمل تحديداً ـ بالإضافة إلى أهل الجنوب ـ أهالي جبال النوبة، والانقسنا، وقبائل إقليم دارفور غير العربية.

لماذا إذاً، وقع خيار قيادة الحركة الجنوبية أخيراً على الانفصال دون تحقيق مشروع السودان الجديد؟

بعد سنوات من تطبيق اتفاقية السلام بين الجنوب والشمال، توصل القائد الجنوبي سلفا كير إلى قناعة نهائية بأن تغيير وطي الهوية العربية لأهل الشمال ليس سوى حلم رومانسي، فأدار ظهره للمشروع مفضلاً انفصال الجنوب.

الولايات المتحدة توصلت أيضا إلى القناعة نفسها، لكن هذا أفضى بها إلى قناعة بديلة أكثر واقعية، مفادها استغلال مشروع السودان الجديد، لا لمحاولة تصفية الهوية العربية لدولة الشمال وشعبها، وإنما لزعزعة الاستقرار الأمني لهذه الدولة، عن طريق استنزافها اقتصادياً باستحداث حروب داخلية ضدها.

هذا هو معنى إشعال الحرب الجديدة، انطلاقاً من ولايتي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق.

لكن هذا التدبير لا يعني إقصاء الدولة الجنوبية الوليدة عن المعادلة. فمن الواضح الآن أن الدولة الجنوبية أصبحت بموجب التدبير الأميركي، القاعدة اللوجستية للقوات القتالية في الولايتين، بما في ذلك توفير المأوى والتدريب في معسكرات على الأراضي الجنوبية. وفي هذا السياق، علينا أن ندرك أيضا دخول إسرائيل على الخط، فهي من أولى الدول التي سارعت إلى الاعتراف بالجمهورية الجنوبية. وفي ما يبدو فإن إسرائيل هي الطرف الذي يتولى أمر التمويل وإمدادات السلاح.

هنا يبرز تساؤل كبير: ما موقف قيادات أحزاب المعارضة في الشمال؟

لقيادة «الحركة الشعبية قطاع الشمال» تكتيك محدد. فمن أجل التغطية على أجندتها الحقيقية، فإنها تدعو في العلن إلى إسقاط النظام الحاكم، لكي تستقطب تأييد أحزاب المعارضة الشمالية، دون أن تفصح عن هدفها الاستراتيجي الحقيقي، وهو زعزعة استقرار دولة الشمال، بغض النظر عمّن يحكمها.

هو نفس التكتيك الذي استخدمه قرنق لاجتذاب الأحزاب الشمالية، في إطار التحالف الذي أطلق عليه «التجمع الوطني الديمقراطي». وعلى هذا النحو صعد قرنق على أكتاف القيادات الشمالية، في سياق مواجهته للجبهة الإسلامية الحاكمة، ليركل التجمع لاحقاً بعد أن قرر الدخول في عملية تفاوض ثنائي مع نظام الجبهة الحاكم.

وإذاً، يبقى سؤال: هل استفادت قيادات الأحزاب الشمالية من درس الماضي القريب؟

 

Email