أخرجوا البعير من رؤوسكم

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت في مجلس رمضاني دار فيه نقاش حاد بين أحد الحضور وبين باقي رواد المجلس، فقد طرح ذلك الشخص تساؤلات من العيار الثقيل أزعجت مسامع الباقين، حيث سألهم: «كيف تتأكدون من أن الإسلام هو دين صحيح؟»، ولم يكد ينتهي من سؤاله حتى ضج المكان بالردود العنيفة التي اتخذت، بعد بضع دقائق، منحى هجومياً على شخص السائل متهمينه بالتشكيك في الدين، وداعينه للرجوع عن كلامه، فأكد لهم بأنه مسلم ويعتقد بالإسلام وملتزمٌ بكل تعاليمه، وبعد أن هدأ اللغط ألقى قنبلة أخرى قائلاً: «وكيف تتأكدون من أن القرآن هو كلام الله حقاً؟»، فاتُهم بكل الاتهامات التي يمكنك أن تتخيلها، حتى ذكر له أحدهم قول الأعرابي: «البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير...»، فرد صديقنا موجهاً كلامه للحضور: «ألا ترون معي أن السبب الرئيس لكوننا مسلمين هو أن أهلنا مسلمون وأننا نعيش في بلد إسلامي؟».

بعد أن انفضّ المجلس الذي تركه حضوره بُغضاً لأسئلة الرجل، جلستُ معه وحدي فأكد لي بأنه يقوم رمضان ويقرأ القرآن ربما أكثر من أي واحد من الحضور، ولكن هذه التساؤلات تراوده منذ عدة سنوات ويتمنى أن يجد لها إجابة شافية، ثم سألني إن كان التفكير في هذه الأشياء محرّماً حتى يتوقف عن مثل تلك الأسئلة؟ قلتُ له بأنني لستُ متخصصاً في العلوم الشرعية حتى أفتيه، ولكن من حق كل إنسان أن يتساءل حتى يصل إلى اليقين، أما إن كان التساؤل غرضه نقض الحقيقة فإن تلك مراهقة فكرية.

عدتُ إلى البيت ولم أستطع النوم حتى الصباح، تساءلتُ بيني وبين نفسي: هل نحن مسلمون عن معرفة أم عن تسليم؟ فالواضح أن غالبيتنا لا تستطيع أن تثبت بأن الإسلام هو الدين الحق دون الرجوع إلى النصوص الشرعية، وليس في ذلك عيب، ولكن المشكلة هي عندما يتحاور أحدنا مع غير المسلمين، فأولئك لا يؤمنون بنصوصنا أصلاً، وبالتالي فإنه يضطر إلى أن يحاورهم بالعقل والمنطق، فيقع في ورطة، ولو أنه قرأ كتاباً لأحمد ديدات لخرج منها.

إن النسق الفكري الإسلامي السائد قائمٌ على ترديد الكلام المُتداول في البرامج والكتب الدينية التي يفتقر كثير منها اليوم إلى تجديد في الرؤى الفكرية وعدم توظيف للعقل في الاستنباط المعرفي، فالاستشهاد بقول الأعرابي: «البعرة تدل على البعير...» لم يعد يُقنع جيلاً منفتحاً على ثقافات العالم المتعددة، فهذا الجيل الذي يستخدم برامج الآي فون المختلفة لتفسير القرآن وشرح الأحاديث، ويحمل في نفس الهاتف موسوعة (ويكيبيديا) العملاقة، ويمكنه أن يبحث في مليارات الصفحات على غوغل من جهازه في أي وقت يشاء، لا يمكنه أن يركن عقله ومنطقه لقول أعرابي قبل مئات السنين، فهو يحتاج إلى إطارٍ حديث للفهم والتحليل، ويحتاج إلى أدلّة ترتكز على المنطق أكثر من ارتكازها على السجع والطِّباق، وبالتالي فإن مخاطبتهم لابد أن تكون من جنس الأدوات المعرفية التي يعيشون فيها وعليها طوال اليوم.

إن المنظومة المعرفية في مجتمعاتنا لازالت تعاني من تقليدية في الطرح، ولا نكاد نجد من أخذ على عاتقه تجديد الخطاب الديني العقلاني إلا القليل من المفكرين الذين يترددون كثيراً في بثّ رؤاهم الحداثية خوفاً من المجتمع، حيث نرى بعضهم على تويتر كلما تقدموا تغريدة إلى الأمام عادوا عشراً إلى الوراء بعد أن ينهال عليهم طلبة تقليديون بالتشكيك في عقائدهم ونواياهم، وباتهامهم بمجاملة تيارات أخرى أو سلطة سياسية معينة.

من السهل أن يظن الإنسان بأنه على صواب، ولكن من الصعب أن يُثبِت ذلك، ومن أصعب المواقف التي قد تمر بالإنسان في حياته عدم قدرته على الدفاع عن معتقده بالصورة الصحيحة. نؤمن جميعنا بالإسلام ونعتقد تماماً وإطلاقاً بما جاء عن الله عز وجل وما صدر عن نبيه، صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يكمل اعتقادنا (فكرياً وليس إيمانياً) إلا عندما نعرف لماذا نؤمن. إن المسلمين الذين يعتنقون الإسلام لاحقاً يمارسونه بتسامح عظيم وبدقة متناهية أكثر أحياناً ممن ولدوا مسلمين، والسبب هو أنهم آمنوا عن معرفة وإدراك، ولذلك فإنهم لامسوا روح الإسلام الحقيقية.

قد يتساءل أحدنا ويقول: لماذا نُلهي أنفسنا بهذه التفاصيل التي قد تلقي الشك في قلوبنا؟ والجواب هو: لسببين، الأول أننا عندما ندرك بالمنطق والعقل سبب إيماننا فإننا سنكون أكثر استقراراً من الناحية الروحية، وستتحول ممارساتنا لشعائر الدين من طقوسٍ يومية تخلو من معنى وتأثير، إلى قناعة وثقافة تغير واقع الفرد والأمة. والسبب الثاني هو أننا لن نتهاوى عند أول سؤال يطرح أمامنا عن حقيقة الإسلام ومعتقداته الكبرى، كما جرى في المجلس، فينزع أحدنا إلى العنف اللفظي والإقصاء الفكري. انظر حولك وسترى بأن معظم نقاشاتنا اليومية تشوبها المشاعر أكثر من الاستدلالات، وغالباً ما تنتهي بالمجاملات أو بالخصام.

إن من يعرف، يكون أكثر تسامحاً، لأن نفسه مطمئنة بما توصل إليه عقله من حقيقة، ومن يجهل يكون أكثر تعصباً، لأنه لا يملك من المعرفة شيئاً فيستعيض عنها بالعاطفة، والأسوأ مِن ألا نعرف الحقيقة، هو ألا نسأل عنها.

كاتب إماراتي

Email