مأساة هيروشيما ونغازاكي

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما زال الحدث الجلل المتمثل في استخدام القنبلة الذرية لأول مرة عالميا في هيروشيما ونغازاكي في السادس والتاسع من أغسطس 1945، ماثلا أمام أعين البشرية جيلا بعد جيل، والذي تطل علينا ذكراه لنستخلص الدروس والعبر منها.

إن العصر النووي وهو العصر الذي نعيش فيه، بدأ منذ 16 يوليو 1945، إذ إنه في ذلك اليوم تم التكشير عن الأنياب النووية لهذا السلاح الفتاك، الذي تناولته المباحثات الشهيرة في الاجتماع الذي انعقد في مدينة بوتسدام وحضره قادة الحلفاء، بعد دخول قواتهم إلى ألمانيا.

وشارك في اجتماع بوتسدام كل من الرئيس الأمريكي هاري تورمن، والزعيم السوفيتي جوزيف ستالين، ورئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل، حيث ناقشوا الشروط التي سيتحتم على ألمانيا قبولها في إطار الاستسلام غير المشروط، كما ناقش الاجتماع رفض اليابان الانصياع للحلفاء. وخلال الاجتماع علم ستالين من ترومن، أن الولايات المتحدة تملك سلاحا قويا جديدا يمكن أن يردع اليابان. وبعد أن انفض مؤتمر بوتسدام وجه لليابان إنذارا نهائيا للاستسلام أو مواجهة سلاح الدمار الشامل.

وكان أول اختبار عالمي لهذا السلاح الذري قد أجرى بسرية تامة في لاس آلاماس في ولاية نيومكسيكو الأمريكية، بحضور عدد محدود من العلماء والقادة العسكريين، وكان انفجارا مذهلا ومرعبا، انبعثت منه النيران الكثيفة والرماد النووي الذي اعتلى في السماء واهتزت له الأرض. كان ذلك هو الميلاد السري للقنبلة الذرية.

وبعد نجاح هذا الاختبار للقنبلة الذرية، أبحرت السفينة الأمريكية "انديانا بوليس" من سان فرانسيسكو في مهمة سرية، تحمل طرداً خشبيا، ولا يعلم بحارة السفينة أهمية هذا الطرد أو مدى حجم بشاعته.

وكانت الخطة السرية تتمثل في نقله إلى جزيرة تينيان في المحيط الهادئ، لكي تتزود بمحتوياته طائرات قاذفة للقنابل، والتي ستحلق فوق سماء المدينتين اليابانيتين هيروشيما ونغازاكي لتلقي عليهما بحملها من سلاح الدمار الشامل.

لقد قدر ضحايا الأشهر الأربعة الأولى للقنبلتين بـ130 ألف نسمة في هيروشيما و80 ألفا في نغازاكي، نصفهم قضوا نحبهم في اليوم الأول. بهذا انتهت الحرب العالمية الثانية وبدأ العصر الجديد، العصر النووي.

إن الباخرة التي أفرغت حمولتها في جزيرة تينيان، هاجمتها وهي في طريق العودة الغواصة اليابانية "آئي 58" بصاروخين "طوربيد"، وخلال ربع ساعة اشتعلت السفينة وغرقت، وبذلك أزهقت أرواح معظم بحارتها الـ1166، وزاد الوضع مأساوية أن النفر القليل الذين نجوا من البحارة التهمت معظمهم أسماك القرش، ولم يبق منهم على قيد الحياة إلا حوالي 300 انتشلتهم إحدى السفن المبحرة هناك.

فماذا يظهر لنا من اجتماع مدينة بوتسدام الألمانية في 16 يوليو 1945، وكذلك اختبار القنبلة الذرية في لاس آلاماس، وتجربة السفينة انديانا بولس؟

يظهر الاجتماع أن القادة الذين اتخذوا ذلك القرار، سيسجله التاريخ لهم بازدراء. وتظهر تجربة لاس آلاماس أن أعظم العلماء، يمكن أن يقترفوا أعمالا يندى لها الجبين الإنساني.

وتثبت رحلة سفينة "انديانا بولس" أن أذكى الاستراتيجيين قد خططوا لطريق آمن للإبحار، إلا أن القدر كان عكس ذلك في طريق العودة. وعلى أساس هذه التجارب الثلاث، يمكن للدول التي تسعي لامتلاك أسلحة الدمار الشامل والتي تحاول أن تجد المعادلة المناسبة للالتزام بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، أن تخلص من خلالها إلى التالي:

* إن قادة الدول النووية لا يتحلون بالصفة القيادية من خلال استخدام أو عدم استخدام سلاح الدمار الشامل، وإنما بموقفهم من معادلة "أن نكون أو لا نكون".

* إن كفاءة الاستخبارات لا تقاس بمدى حصولها على المعلومات الحساسة عن الأنشطة النووية للآخرين، وإنما بإدراك مخاطر انتشار أسلحة الدمار، لتعيد إلى الأذهان حقبة الحرب الباردة، تضاف إليها في القرن الواحد والعشرين إمكانية وصول الأفراد أو المجموعات الصغيرة إلى التكنولوجيا النووية وابتزاز وإرهاب العالم بها.

* إن من التحديات النووية الكبيرة مخاطر المفاعلات النووية التي تقام للأغراض السلمية، والتي تحتاج إلى نظم للسيطرة والسلامة للحد من الإشعاعات النووية، التي قد تحدث بفعل كوارث طبيعية أو حوادث مفاجئة أخرى، فهل المفاعلات النووية للأغراض السلمية يمكن تصميمها لتفادي مثل هذه التهديات؟

* إن الإشعاعات الصادرة من نفايات المفاعلات النووية، ما زالت تحتاج إلى التأكد من وضعها في أماكن محكمة الإغلاق لا تسمح بأي تسرب منها.

* إن المفاعلات النووية ومتطلبات السلامة فيها، وخوفا من أن تتعرض لحادث عرضي أو لهزة أرضية أو تسونامي، مثل ما حصل في فوكشيما أو قبل ذلك بربع قرن في شيرنوبل، قد تحتاج إلى إعادة تصميم أو إعادة تموضع.

ولعل كلمات اللورد مارتن رايس رائد الفضاء البريطاني، بحاجة إلى آذان صاغية "إن المفاعلات النووية بقدر ما تفيد في ظل أي نقص للاحتياطيات النفطية وتزايد الاحتباس الحراري، إلا أننا بحاجة إلى مصادر طاقة متجددة أخرى ملائمة للبيئة وتؤمننا من مخاطر الجانب النووي".

إن درس السادس والثامن من أغسطس 1945، يضعـنا أمام احتمال أن التكنولوجيا النووية يمكن أن تنزل علينا "بردا وسلاما"، أو مواجهة الفك المفترس لسمك القرش الذي التهم البحارة الذين نقلوا أول قنبلة ذرية، أو مواجهة الدمار لضحايا هيروشيما ونغازاكي من جراء إسقاط القنبلة عليهم.. والأرجح أننا قد نواجه الاحتمالين الأخيرين.

Email