أميركا وفواتير سياسة الحروب

ت + ت - الحجم الطبيعي

أميركا غارقة في محنة اقتصادية جسيمة، تندفع بها سريعا نحو حافة الإفلاس الشامل، والسبب هو كلفة الحروب الأسطورية، ومع تعاظم المحنة يتراجع النفوذ الدولي للولايات المتحدة. هذا ما يستخلص من دراسة نشرتها قبل نحو أسبوعين، إحدى الجامعات الأميركية المتميزة.

على مدى عقد زمني منذ هجمات «سبتمبر» على نيويورك وواشنطن في عام 2001، تتورط الولايات المتحدة في ثلاث حروب: العراق وأفغانستان وباكستان. ووفقا للدراسة التي أعدتها جامعة براون، فإن التكلفة الإجمالية لهذه الحروب بلغت حتى الآن 3700 مليار دولار (أي 3.7 تريليونات).

وإذا كان هذا الرقم مثيرا للاندهاش والاستنكار معا، فإن الخسائر البشرية التي نشأت عن هذه الحروب، سواء لدى الولايات المتحدة أو الدول والشعوب التي جرت وتجري الحرب على أرضها، أدهى وأمر. الرقم الإجمالي للضحايا هو 255 ألف قتيل. وتورد الدراسة تفاصيل مفزعة كما يلي: من أصل الرقم الإجمالي للقتلى، هناك 31741 جنديا، بينهم حوالي 6000 جندي أميركي، و9900 جندي عراقي، و8800 جندي أفغاني، و3500 جندي باكستاني.

لكن الفاتورة الأكبر ـ تقول الدراسة ـ دفعها المدنيون. فالأرواح المدنية التي أزهقت في هذه الحروب، بلغت 172 ألف قتيل، موزعين على الشكل الآتي: 125 ألف قتيل عراقي، و38 ألف قتيل باكستاني، و12 ألف قتيل أفغاني. أما الحديث عن اللاجئين والنازحين، فينتقل إلى خانة الملايين. فقد بلغ العدد نحو تسعة ملايين غالبيتهم في العراق وأفغانستان.

مع كل هذه الخسائر، يبرز السؤال الأكبر: ما هي النتيجة أو النتائج؟

من الوهلة الأولى نستطيع أن نستبين تطورين حدثا للمرة الأولى في التاريخ الأميركي: أولا عجز خرافي في الميزانية العامة يربو الآن على تريليون ونصف تريليون دولار. وثانيا: أن الولايات المتحدة القوة الاقتصادية العظمى في العالم، أضحت دولة مدينة.

ولكي ندرك المغزى العميق لهاتين الحقيقتين، فإن علينا أن نستدعي إلى الذهن أن الدائن الأكبر للولايات المتحدة هو الصين، وأن الميزان التجاري السنوي بين الدولتين يسجل عجزا أميركيا بنحو 11 تريليون دولار لصالح الجانب الصيني. وبينما أصبح الاقتصاد الصيني الآن ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأميركي، فإن الصين باتت مرشحة لاحتلال المرتبة الاقتصادية الأولى في العالم مع نهاية العقد الزمني القادم.

والترجمة السياسية لهذه الحقيقة، تتكون من عنصرين: أولا؛ أن النفوذ الاستراتيجي الصيني إذ يتوسع في جنوب شرق آسيا بخطى حثيثة، فإنه يمتد أيضا ليشمل إفريقيا. ثانيا؛ أن انكماش النفوذ الدولي الأميركي على المستوى العالمي الشامل، شجع دولاً أخرى على الاستقلال عن الهيمنة الأميركية على المستويين الاقتصادي والسياسي، فبرزت على هذا الصعيد تركيا في القارة الأوروبية، والبرازيل وفنزويلا في أميركا اللاتينية، والهند في غرب آسيا.

لقد شهدت تركيا خلال السنوات العشر الأخيرة تحولا تدريجيا، لكنه حاسم على الطريق الديمقراطي، مما أدى إلى تقلص سيطرة المؤسسة العسكرية على جهاز الحكم، تحت وطأة ضغط شعبي قوي وتصاعدي، يهدف إلى استعادة هوية تركيا الإسلامية الأصلية، خاصة بعد أن أغلق في وجهها باب عضوية الاتحاد الأوروبي. وكانت النتيجة ذلك الصعود الشعبي المذهل لحزب «العدالة والتنمية» ذي الجذور الإسلامية.

والاستقلالية التركية التي انتهجها حزب العدالة والتنمية عن الهيمنة الأميركية، تتمثل أولا في التعامل مع واشنطن على أساس التكافؤ والندية، وثانيا في تبني سياسة حازمة تجاه إسرائيل، إيذاناً بعهد جديد تحت عنوان التضامن الإسلامي.

أما الاستقلالية التي تنتهجها البرازيل وفنزويلا والهند، فقد تمثلت بأوضح صورها في المواقف المناوئة للولايات المتحدة، التي اتخذتها هذه الدول في المعارك الدبلوماسية التي جرت مؤخرا في مجلس الأمن الدولي.

صفوة القول أن عسكرة السياسة الخارجية عن طريق شن حروب تلو حروب (ابتداء من الحرب الكورية في الخمسينات والحرب الفيتنامية في الستينات والسبعينات)، لم تعد على الولايات المتحدة إلا بنتائج سالبة على الصعيد الاقتصادي، أفضت بدورها إلى عد تنازلي للنفوذ الدولي الأميركي.

أميركا أصبحت اليوم مدينة للعالم بنحو 14 تريليون دولار، ولكي يتسنى لها الوفاء بهذه الديون الأسطورية، فإن عليها أولاً أن تتحرر من عبء الحروب العدوانية، لتتحول من اقتصاد عسكري مدمر إلى اقتصاد إنتاجي مثمر.

 

Email