أيلول فاصل بين مرحلتين

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يعد ثمة شك في أن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، قد انتقلا فعلياً إلى دائرة الصراع مرة أخرى، بعد نحو عقدين من البحث عن السلام، أفرغته السياسات الإسرائيلية المدعومة كلياً من قبل الولايات المتحدة، من محتواه. فلقد كفت دوائر الرباعية الدولية، والدوائر الأوروبية، وقبلها الدوائر الأميركية كلها عن البحث في إمكانية استعادة مناخ يؤدي إلى استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

وهكذا وسط كثير من التصريحات التي تصدر عن مختلف الأطراف في المنطقة وعلى المستوى الدولي، بشأن السلام والمفاوضات لم يجد الطرف الفلسطيني أمامه خياراً سوى الانتقال بملف الحقوق إلى الأمم المتحدة، رغم كل ما ينطوي عليه الأمر من مخاطر وتحديات.

الولايات المتحدة وإسرائيل لم تتركا لمنظمة التحرير أي منفذ أو خيار، فإما أن ترفع الرايات البيضاء وتعلن قبولها بالاشتراطات الإسرائيلية التي لا تبقي من حقوق الفلسطينيين شيئاً، وإما أن عليهم قبول التحدي، وتغيير قواعد اللعبة السياسية، بحيث يبقى خيار المفاوضات، خياراً نظرياً، للتغطية على وضعية صراعية تنفتح على مختلف أشكال وأساليب المواجهة.

خيار الذهاب بالملف إلى الأمم المتحدة لا يصيب السياسة الإسرائيلية فقط وهي التي رفضت منذ بداية الصراع أي دور وكل قرارات الأمم المتحدة ما عدا قرار التقسيم رقم 181، لعام 1947، الذي أسس لوجود دولة إسرائيل، وإنما يصيب أيضاً الولايات المتحدة. الإدارة الأميركية تدرك أن إصرار الفلسطينيين على الذهاب بملف حدود الدولة وتحصيل مقعد دائم في المؤسسة الدولية ينطوي على إعلان إجرائي بفشل الدور الأميركي، ونقل الملف من يد المحتكر الأميركي وسياساته إلى الأمم المتحدة بمرجعياتها ومواثيقها وقراراتها. لذلك جاءت التصريحات الأميركية حادة جداً.

حيث سبق أن أعلن الرئيس أوباما أن بلاده ستقاتل من أجل إفشال التوجه الفلسطيني، وأطلقت الدوائر الأميركية تهديدات بوقف الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، وأيضاً وقف المساهمات المالية الأميركية في موازنة الأمم المتحدة. تستطيع الولايات المتحدة أن تفعل ذلك وأن تجرد حملة سياسية ودبلوماسية لا تقوى عليها إسرائيل التي تعاني من عزلة دولية.

وربما تلجأ أيضاً إلى ممارسة ضغوط مباشرة وغير مباشرة على الكثير من دول العالم لمنعها عن دعم المطالب الفلسطينية، لكن كل ذلك لم يعد ينفع لإقناع منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بالتخلي عن قرار الاندفاع نحو مجابهة هذه التحديات.

إن قبول أي طرف فلسطيني في موقع القرار السياسي، بالعدول عن خيار الذهاب إلى الأمم المتحدة بدون ثمن وخيار معقول يعني السقوط الكامل لكل النظام الفلسطيني وانهيار المنظومة السياسية والأخلاقية لمنظمة التحرير والسلطة وحتى الفصائل الوطنية التي حملت خيار المفاوضات وأيدته كل الوقت.

ولكن كما أن العقوبات والتهديدات الأميركية تنطوي على مجازفة، والحال ذاته أساساً بالنسبة للفلسطينيين الذين يجدون أنفسهم في معركة قوية ليس مع إسرائيل وحدها، بل وقبل هذا مع الولايات المتحدة، فإن إسرائيل هي الأخرى في حيص بيص من أمرها إزاء كيفية مجابهة التحديات الفلسطينية قبل أيلول وبعده.

لم يتبق في جعبة السياسة الإسرائيلية ما تهدد باتخاذه ضد الفلسطينيين سوى ما تسرب الأسبوع الماضي عن بحث حكومة نتانياهو بشأن إمكانية اتخاذ قرار بإلغاء اتفاقية أوسلو.

نتانياهو الذي يدرك أبعاد ومخاطر مثل هذا القرار في حال اتخاذه، أسرع بنفي مثل هذه التسريبات والأخبار الصحافية، أما وزير دفاعه إيهود باراك فأعلن أن على إسرائيل البحث في وسائل تجنبها الدخول في مواجهة مع الفلسطينيين. وفي الواقع فإن قرار إلغاء اتفاقية أوسلو، لو وقع، سيخلق لإسرائيل أزمة كبيرة، ذلك أن الحكومات الإسرائيلية السابقة والحالية لم تبق من التزامات أوسلو، سوى وجود السلطة الوطنية الفلسطينية، وبالتالي فإن إلغاء اتفاقية أوسلو يعني أساساً ومباشرة إلغاء ونفي وجود السلطة، وإقفال ملف المفاوضات والبحث عن السلام إلى أمد طويل.

والحقيقة أن لا إسرائيل ولا المجتمع الدولي بما في ذلك الولايات المتحدة، يرغبون في تغييب السلطة، لأن غيابها يعني أن تعود إسرائيل تتحمل مباشرة المسؤولية الكاملة عن إدارة حياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، ويعني إعادة صياغة العلاقة بين كل التجمعات الفلسطينية في أرض فلسطين التاريخية على نحو يفتح فقط على دائرة صراع مميتة بالنسبة للإسرائيليين.

وفي زمن ربيع الثورات العربية لا نعتقد أن مصلحة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تتحمل اندلاع فوضى عارمة في المنطقة وعودة الصراع بمختلف أشكاله ووسائل خوضه وتجلياته، ذلك أن مثل هذا الصراع سيشكل الدينامو الذي يحرك فعل واتجاهات تطور الجماهير الشعبية العربية نحو تجذير مواقفها من السياسات الأميركية والإسرائيلية.

لدى الولايات المتحدة وإسرائيل ما تضغطان به على الفلسطينيين، ولديهما أيضاً ما يؤثران به على مواقف وسياسات العديد من الدول المقتنعة بالحق الفلسطيني بما في ذلك بعض الدول العربية والإسلامية، ولدى الولايات المتحدة القدرة على استخدام حق الفيتو لتعطيل التوجهات الفلسطينية.

ولكن لدى الفلسطينيين أيضاً من أوراق القوة، بما في ذلك ضعفهم وتشتتهم، بما يجعلهم قادرين على خوض هذه التحديات. على أن القرار الفلسطيني بخوض هذه التحديات يستلزم أولاً وقبل كل شيء تفعيل المصالحة واستعادة الوحدة، ذلك أن حشد كل الطاقات الفلسطينية يقع في مقام الأولوية المطلقة، قبل التوجه لحشد الطاقات العربية والإسلامية، بل إن النجاح في حشد طاقات الأشقاء والأصدقاء مشروط بالنجاح في حشد الذات الفلسطينية.

في هذا الإطار تخطئ كل الحسابات التي تقوم على أن تأخير المصالحة إلى ما بعد أيلول، من شأنه أن يخفف من وطأة الضغوط الأميركية والإسرائيلية على المنظمة والسلطة، على اعتبار أن الأميركيين والإسرائيليين يمكنهم أن يتذرعوا لتبرير حملتهم المعادية والصعبة، بمشاركة حماس في الحكومة الفلسطينية، التي يواصلون وصفها بالجماعة الإرهابية المتطرفة.

Email