هل حان وقت سقوط الإمبراطوريات الإعلامية؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

تساؤلات كثيرة جدا أثارتها فضائح إمبراطورية روبرت ميردوك الإعلامية واختراقها لأخلاقيات الصحافة وإتيكيت الممارسة الإعلامية. وسائل الإعلام العالمية انتقدت بحدة تصرفات وسلوكيات جريدة «نيوز أوف دو الورلد» عن عملية التنصت والتجسس على الآخرين للحصول على أخبار الفضائح والسبق الصحافي.

 الأخطر في إمبراطورية روبرت ميردوك الإعلامية ليس هو فقط استخدام الوسائل غير الأخلاقية للحصول على الأخبار، بل هو القضاء على التنوع والتعدد والاختلاف والتي هي في الأساس المكونات الجوهرية والمحورية التي تقوم عليها حرية الصحافة والسوق الحرة للأفكار. فالاحتكار الإعلامي يؤدي في نهاية المطاف إلى احتكار الرأي ومصادرة حرية الصحافة والسلطة الرابعة.

يتساءل الكثيرون عن واقعية وموضوعية مخرجات وسائل الإعلام وإلى أي مدى تعكس هذه الرسائل الواقع كما هو وإلى أي مدى تشكله وتبنيه و«تفبركه» وفق أطر ومرجعيات واتفاقيات محددة.

ففي بعض الأحيان يُقدم الحدث من زوايا مختلفة وبرؤى متناقضة وكأن الأمر يتعلق بحدثين مختلفين تماما. تعامل وسائل الإعلام مع الكثير من القضايا والأحداث يثير عدة تساؤلات وملاحظات من أهمها أن الإعلام بصفة عامة والصورة بصفة خاصة أصبحا جزءا لا يتجزأ من بعض القضايا والأزمات والحروب. ما قدمته وسائل الإعلام أثناء الاعتداء الصهيوني على لبنان، وحرب أميركا على العراق وممارسات الكيان الصهيوني في فلسطين لا تخرج عن هذه القاعدة.

تثير الصورة في وسائل الإعلام إشكالية التثبيت والإقصاء، حيث ان الأشياء التي تركز عليها الكاميرا تبقى عالقة في أذهان الجمور وإدراكهم ومخيالهم والأشياء التي تهمشها وتتجاهلها وتتخلى عنها وسائل الإعلام فإنها تزول للأبد من إدراك الجمهور. فالصورة تستخلف الواقع في الكثير من الأحيان بل تصبح هي الواقع نفسه.

وهذا يعني أن الصورة تستحضر الغائب وتُغّيب الحاضر. الصورة أصبحت سلعة في الصناعة الإعلامية، لكنها بدلا من السعي من أجل تقديم الواقع وإثراء الحوار والنقاش وتبادل الآراء والأفكار من أجل خلق مناخ ديمقراطي أصبحت وسيلة للتلاعب والفبركة وبناء الواقع حسب ما يريده أصحاب الإمبراطوريات الإعلامية ومن ورائهم أباطرة المال والسياسة.

ومن هنا نلاحظ أن في العديد من الأحيان يتم التلاعب بالصور وإعادة تركيبها وإخراجها وإضافة أشياء وتعديلات عليها حتى تعكس ايماءات وإيحاءات معينة لا تعكس الواقع بالضرورة كما هو وإنما تعكس واقعا مختلفا تماما وفق معايير تحددها الأبعاد الأيديولوجية والسياسية لصاحب المؤسسة الإعلامية. يحدث هذا في الحروب والأزمات والأعمال الإجرامية والإرهابية للتأثير والتلاعب بمشاعر الناس ولتشكيل وعي ينسجم مع أيديولوجية ومصالح القوى التي تتحكم في الاقتصاد والسياسة والإعلام.

شهدت الساحة العربية والعالمية خلال السنوات القليلة الماضية أحداثا مهمة تفاعلت معها وسائل الإعلام من مختلف أنحاء العالم بطرق مختلفة وفي بعض الأحيان يتبادر للقارئ أو المشاهد أن الأمر يتعلق بأحداث مختلفة وليس بنفس الحدث.

لكن عملية النظر إلى الحدث ومعالجته وتحليله وتقديمه للجمهور هي التي اختلفت وبذلك يكاد الحدث نفسه يختلف رغم أنه واحد. أصبحت وسائل الإعلام في القرن الحادي والعشرين «تفبرك» الواقع أكثر مما تقدمه وتنقله للجمهور كما هو. الكلام عن الموضوعية والبراءة وتقديم الأشياء والأحداث والحروب والأزمات كما هي في الصناعة الإعلامية يعتبر ضربا من الخيال.

وسائل الإعلام وبفضل المكانة الاستراتيجية التي تحتلها في المجتمع وبفضل قوتها ونفوذها في عملية تشكيل وصناعة الرأي العام وفي إعلام وإخبار الجماهير بما يحدث ويجري من حولهم وفي العالم بأسره أصبحت تستقطب اهتمام القوى الفاعلة السياسية، الاقتصادية، الدينية، جماعات الضغط، المجتمع المدني - في المجتمع سواء محليا أو دوليا. هذه القوى تعمل جاهدة على تشكيل الوعي وفق معايير ومقاييس تخدم وجهة نظرها ورؤيتها للأحداث وبذلك مصالحها.

لا يحرك وسائل الإعلام في أي مجتمع المال فحسب، بل هناك قوى أخرى تتنافس فيما بينها للاستحواذ والسيطرة عليها من أجل إعلاء كلمتها ووجهة نظرها وإيصالها للرأي العام. لأن في نهاية المطاف السلطة الحقيقية في أي مجتمع يؤمن بالديمقراطية والشفافية هي سلطة الشعب أي الرأي العام.

والقوى الاستراتيجية التي تشكل الرأي العام في أي مجتمع هي وسائل الإعلام. حسب ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، أصبحت الثقافة في القرن الحادي والعشرين صناعة مثلها مثل الصناعات الأخرى تخضع لقوانين العرض والطلب وبذلك قوانين السوق.

فالمنتجات الثقافية أصبحت منتجات معلبة تُصنع وفق معايير الإنتاج المتسلسل ووفق أنماط معينة تؤدي في النهاية إلى أحادية الأسلوب والمحتوى. وبذلك اٌختصرت الثقافة في التسلية والاستهلاك العابر- الذي يعمر لفترة زمنية محدودة ثم يزول للأبد. فالصناعات الثقافية أصبحت مرادفة للتلاعب بأذواق الأفراد وحسهم، كما أصبحت نموذجا للتعليب والتنميط والتسطيح وإفراغ الثقافة من محتواها الحقيقي ومن بعدها الجمالي والإنساني.

أثرت العولمة الليبرالية في المؤسسات الإعلامية في جميع أنحاء العالم وأفرغتها من دور الرقابة والسلطة الرابعة والدفاع عن مصالح المحرومين والضعفاء والمساكين في المجتمع من خلال إبراز الحقيقة والبحث عنها بدون كلل أو ملل. فالسلطة الحقيقة في المجتمع أصبحت في أيدي حفنة من المجموعات الاقتصادية العالمية وهذه الشركات الكونية يزيد حجمها الاقتصادي أحيانا عن ميزانيات بعض الدول والحكومات، بل مجموعة من الدول والحكومات. فالتطور الجيواقتصادي الذي شهده العالم خلال العقود الأخيرة أدى إلى تغييرات وتطورات حاسمة في الصناعات الإعلامية والثقافية على المستوى العالمي.

 

Email