جنوب السودان.. أميركا وإسرائيل على الخط

ت + ت - الحجم الطبيعي

على مدى 56 عاماً، لم تتوقف القيادات السياسية لجنوب السودان عن الدعوة إلى الانفصال، إما بصورة مباشرة أو عبر المطالب بتقرير المصير. الآن وبعد أن أعلن رسميا، وبموجب استفتاء عام جرى قبل سبعة شهور، مولد جمهورية جنوب السودان في التاسع من يوليو الجاري، فإن السؤال الابتدائي الذي ينبغي أن يطرح، هو: هل ستكون الأجندة الاستهلالية للجمهورية الوليدة مبنية على أولويات القائد الجنوبي سلفاكير ميارديت أم أولويات الرئيس الأميركي باراك أوباما؟

الأولويات متناقضة في الحالتين. وإن كان هناك أي عنصر أساسي يجمع بينهما، فهو أن الأولويات في كلتا الحالتين تنطلق من دواع أمنية صرف.

على الصعيد الجنوبي، فإن الهاجس الأعظم الذي يشغل فكر وتفكير الرئيس سلفاكير، هو تأمين سلطة الجمهورية الجديدة من خطر داخلي ذي طابع قبلي مسلح. أما ما يستأثر باهتمام الرئيس الأميركي بالدرجة الأولى، فهو أن تستخدم واشنطن القوة العسكرية للجمهورية الجنوبية، في شن حرب أو حروب خارجية تتوجه شمالا نحو جمهورية السودان العربية الإسلامية، بهدف إضعافها واستنزافها داخليا، في إطار الاستراتيجية الأميركية نحو إفريقيا السوداء، وبالتالي تعجيزها على الصعيد الخارجي.

ولكي نفهم طبيعة التحدي الأمني الداخلي الذي يواجه الرئيس سلفاكير، ومدى جسامته، فإن علينا أن ندرك أولا أن قيادات وكوادر «الحركة الشعبية»، تستأثر وحدها بسلطة الحكم على نحو احتكاري، وثانيا أنها ــ أي الحركة الشعبية ــ تنظيم قبلي لا يمثل سوى قبيلة واحدة هي «الدينكا». وبطبيعة الحال كان من شأن مثل هذا الوضع الاحتكاري، أن يستثير غضبا عاما ومتصاعدا بين القبائل الأخرى. وعلى مدى سنوات الحكم الذاتي الست السابقة على إعلان الجمهورية وحتى الآن، قامت القبائل المناوئة للسلطة بترجمة غضبها إلى قتال ضد جيش الحركة الشعبية في كافة أنحاء الجنوب، خاصة في إقليم أعالي النيل وإقليم الاستوائية. ويجد جيش الحركة نفسه في مواجهة سبع ميليشيات قبلية مسلحة، ووفقا لإحصاءات الأمم المتحدة، فإن الاقتتال أسفر عن مصرع أكثر من 2300 شخص من الجانبين خلال العام 2011 وحده، بينهم أكثر من 500 شخص قتلوا خلال الأسبوعين الأخيرين من يونيو المنصرم.

تأمين السلطة العليا في الجمهورية الجنوبية أمر يهم الولايات المتحدة بالطبع، لكن لإدارة أوباما اهتمامات أخرى أشد إلحاحا، من حيث زعزعة استقرار الشمال. وعليه فإن لها تصورا مختلفا، لما ينبغي أن يكون عليه دور الجمهورية الجديدة. فواشنطن تخطط لاستغلال القوة العسكرية للرئيس سلفاكير، من أجل إشعال أربع بؤر قتالية شمالية تقع في محاذاة الحدود مع الجنوب، وهي أبيي ومنطقة جبال النوبة ومنطقة الانفسنا ودارفور، وحاليا تسود هذه المناطق الأربع حالة من التوتر المتصاعد بدرجات مختلفة. والخطة الأميركية تقضي، كما يبدو، بأن تقوم حكومة الجمهورية الجنوبية بدور التنسيق بين القوى القتالية المحلية في هذه البؤر، وإمدادها من حين لآخر بالأسلحة والذخائر المتجددة، بتمويل أميركي.

لكن الاستغلال الأميركي لحكومة الجنوب لا يقف عند هذا الحد. ويمكن القول إن جمهورية جنوب السودان، قد صارت بالفعل جزءا من الاستراتيجية الأميركية ــ الإسرائيلية نحو إفريقيا جنوب الصحراء. وفي مقدمة هذه الاستراتيجية ابتزاز مصر سياسيا واقتصاديا، عن طريق تأليب دول حوض النيل ضدها.

لقد بدأت بالفعل بوادر معركة اقتسام مياه النيل، بعد أن شكلت مجموعة دول المنبع جبهة بزعامة إثيوبيا، تطالب بنظام جديد لاقتسام المياه، بما يؤدي إلى خفض حصة مصر (والسودان) التقليدية. ومن المؤكد أن جمهورية جنوب السودان سوف تنضم إلى هذه الجبهة.. علماً بأن النيل الأبيض الذي ينبع من دول شرق ووسط إفريقيا، يمر عبر أراضي جمهورية الجنوب، وأن النيل الأزرق الذي تعتمد مصر على مياهه بالدرجة الأولى بنسبة 85 في المائة من حصتها التقليدية، ينبع من داخل إثيوبيا.

هذا الترتيب الأميركي - الإسرائيلي بشأن الدور الإفريقي المرتقب لجمهورية جنوب السودان، له مقدمات. فقد أوردت وسائل الإعلام الأميركية أنه منذ قيام الحكم الذاتي في الجنوب تطبيقا لاتفاق السلام، ظلت إسرائيل تعقد سلسلة من الاتصالات السرية مع قادة الحكومة الجنوبية. والآن بعد قيام دولة مستقلة في الجنوب، فإن علاقات العمل بين الطرفين ستكون علنية.

وبعد.. يبقى السؤال: هل تستطيع جمهورية جنوب السودان الوليدة أن تقوم بمتطلبات الدور المسند لها أميركياً، بينما في الوقت نفسه تواجه حربا قبلية داخلية مرشحة للتصاعد والتفاقم؟

 

Email