جنوب السودان ومسلسل «تقرير المصير»

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد 20 عاماً من تطبيق سياسة شاملة ترمي إلى فصل جنوب السودان عن شماله، توصلت الإدارة البريطانية الاستعمارية (1898 - 1955) إلى قناعة نهائية بعدم جدوى هذه السياسة. كما توصلت بالتالي إلى سياسة بديلة تقضي بالعمل على دمج الجنوب مع الشمال، في إطار وطن موحد.

لكن الدافع إلى هذه السياسة الجديدة، لم يكن استلهاماً لمصلحة مشتركة لأهل الجنوب وأهل الشمال معاً، وإنما كان ناشئاً عن خوف تجاه مصير الجنوب وأهله. فالحيثيات التي بنيت عليها تلك السياسة، نبعت من حقيقة أنه لا مستقبل آمناً للجنوب دون الاعتماد على الشمال اقتصادياً.

وحينئذ قال رجال الإدارة البريطانية، إنه لو ترك الجنوب لحاله ككيان مستقل بعد جلاء الإنجليز عن السودان، فإنه سيتحول إلى مسرح لحروب قبلية داخلية لا نهاية لها. وبالإضافة إلى الاحتراب القبلي، فإن الجنوب لا يملك المقومات الأساسية للإنتاج، مما يجعل قبائله عرضة لمجاعات بلا نهاية. الجنوب لا ينبغي أن يترك لمصيره. تلك كانت القناعة البريطانية، ولكن إنقاذه من هذا المصير الكارثي، لن يكون ممكناً إلا على حساب الشمال.

بدأ تطبيق هذه السياسة في عام 1947، في إطار مشروع سياسي واقتصادي وثقافي، يستهدف التوحيد الكامل للجنوب مع الشمال، بخطوات متدرجة على مدى 20 عاماً. ولكن منذ ضربة البداية كان من الواضح أن نخبة السياسيين الجنوبيين كانوا يضمرون الانفصال، ولذا فإنه عشية خروج الإنجليز تمهيدا لإعلان استقلال البلاد في مطلع عام 1956، تفجرت حركة تمرد عسكري في الجنوب في أغسطس 1955.

قادت ذلك التمرد مجموعة من الضباط وصف الضباط الجنوبيين، ضد ضباط الجيش الشماليين، وسرعان ما امتدت شرارة التمرد إلى جميع أنحاء إقليم الولاية الاستوائية، فأسفر خلال بضعة أيام عن مذبحة راح ضحيتها مئات الشماليين المقيمين في الجنوب، من موظفين ومعلمين وتجار وعائلاتهم. ورغم أن السلطة المركزية تمكنت من إخماد التمرد خلال أيام، إلا أن عددا من الضباط الجنوبيين المتمردين تمكنوا من الفرار عبر الحدود إلى أوغندا وكينيا. هؤلاء كانوا النواة لإقامة تنظيم سياسي جنوبي في العاصمة الكينية نيروبي باسم «حزب سانو»، له ذراع عسكرية باسم «أنيانيا» أنشأت معسكرات قتالية على خط الحدود الدولية الأوغندية مع جنوب السودان.

هكذا، وفي عام 1962 أشعل التنظيم الجنوبي الحرب الجنوبية الأولى ضد الشمال. ومنذ أول وهلة كان الهدف الأعظم لتنظيم «سانو»، هو فصل الجنوب تحت مسمى «حق تقرير المصير» للشعب الجنوبي، وتواصلت هذه الحرب لمدى عشر سنوات، دون أن تحقق هدفها السياسي. وفي عام 1983 اندلعت الحرب الجنوبية الثانية، بقيادة تنظيم جنوبي آخر هو «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، التي كان يتزعمها جون قرنق. في عام 1965 اتفق السياسيون في كل من الشمال والجنوب على عقد مؤتمر للسلام، للتوصل إلى صيغة دستورية لمستقبل الجنوب. وانتهى المؤتمر إلى فشل، بسبب مطالبة ممثلي الجنوب بالانفصال تحت مسمى «تقرير المصير»، مع إصرار ممثلي الشمال بالإجماع على رفض هذا المطلب. وعوضاً عن ذلك عرض القادة الشماليون نظاماً للحكم الذاتي كحد أقصى.

وبانهيار المفاوضات انهار وقف إطلاق النار المتفق عليه، مما أدى إلى استئناف الحرب. في عام 1972 استؤنفت العملية التفاوضية في ظل نظام الرئيس جعفر نميري، وفي سياق مؤتمر أديس أبابا للسلام، كان من الغريب أن ممثلي الجنوب تقبلوا نظام الحكم الذاتي المحدود، متنازلين بذلك عن مطلب الانفصال الكامل. لماذا؟ لقد تعرض الوفد الجنوبي لضغوط عربية من أجل استرضاء الرئيس نميري، الذي كان يرفض مبدأ فصل الجنوب، وكان أفضل «صديق» للولايات المتحدة في القارة الإفريقية. وقبل شهور فقط من عقد مؤتمر أديس أبابا، كان نميري قد قدم لواشنطن خدمة لا تقدر بثمن. فقد شن حرباً دموية وتدميرية ضارية على الحزب الشيوعي السوداني، أقوى الأحزاب الشيوعية تنظيماً ونفوذاً في إفريقيا والشرق الأوسط.

على أية حال، نجحت العملية التفاوضية هذه المرة، بتوقيع الطرفين الشمالي والجنوبي على اتفاقية أديس أبابا للسلام. لكن رغم أن السلام ساد أنحاء الجنوب لمدى 11 عاما، فإن الحرب اشتعلت مرة أخرى وتفاقمت على مدى 22 عاما، على يد «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة جون قرنق. وبينما كان قرنق يرفع طوال هذه المدة شعاراً وحدوياً تحت مسمى «السودان الجديد»، فإنه عند نهاية المطاف السياسي اتضح أن هذا مجرد شعار تكتيكي وقتي. فمن خلال العملية التفاوضية الجادة مع القيادة الشمالية، اشتملت اتفاقية السلام لعام 2005، وتحت إصرار قرنق، على بند رئيسي ينص ضمناً على انفصال الجنوب، تحت مسمى «تقرير المصير».

والآن وبعد قصة الأمس واليوم، يبقى سؤال كبير: كيف تكون صورة الغد بعد تطبيق استفتاء تقرير المصير الذي يجعل من جنوب السودان دولة مستقلة؟

 

Email