الحكم الديمقراطي والفضاء العام

ت + ت - الحجم الطبيعي

ظهرت في بداية التسعينات اتجاهات فكرية غربية، تبشر بتغيرات إيجابية في الاتصال السياسي في العالم العربي، كنتيجة لانتشار التكنولوجيات الحديثة للاتصال والإعلام والمعلومات، التي أفرزت فضاء عاما أكثر ديمقراطية وأكثر مشاركة ومساهمة في مناقشة قضايا الشعب والمجتمع والشأن العام. وتميزت هذه الأطروحات في مجملها، بانحيازها للجهود التي تقوم بها الدول الغربية لإحداث التغيير والإصلاحات الديمقراطية، في منطقة تحكمها منذ زمن بعيد أنظمة سلطوية. ويستحيل الكلام عن فضاء عربي عام، خارج إطار حدود التنمية المستدامة والمشاركة السياسية الديمقراطية والعادلة في المجتمعات العربية.

يرى بعض المحللين أن "الإسلاموقراطية" كمبدأ وكمفهوم، هو السبيل الأمثل لتحقيق الفضاء العربي العام الجديد، والذي يقوم على القيم الأخلاقية الإسلامية والممارسات السياسية المعاصرة. المبدأ الجديد يحقق الاتصال البيني بين الدول العربية نفسها، ويجسد الحوار بينها وبين الثقافات المختلفة في العالم.

يتساءل الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، عن مرحلة ما بعد الثورات الشعبية، وهل ستشهد المنطقة تغييرات جذرية على مستوى الممارسة السياسية والديمقراطية والتنمية المستدامة في السنوات القادمة؟ أم أن الأمور ستبقى على حالها في غياب مجتمع مدني فعال وفضاء عام، يفرز سوقاً حرة للأفكار تساهم في الحراك السياسي وفي مراقبة الفساد والدكتاتورية والتسلط؟ فالفضاء العام هو البيئة المثلى لتغيير الدهنيات والانتقال من مرحلة الفساد وسوء الإدارة والبيروقراطية، إلى مرحلة جديدة تقوم على آليات الحكم الراشد والديمقراطية، ومشاركة المجتمع المدني في صناعة القرار.

يلعب الإعلام العربي دوراً محورياً في إثراء الفضاء العام، من خلال تعزيز الهوية الثقافية والمشاركة السياسية في المجتمعات العربية، كما لا يمكن البحث عن إطار واضح المعالم لإعلام عربي بهوية متماسكة، دون التأسيس لنظرية اجتماعية وسياسية، تقوم على النسيج القيمي العربي الإسلامي، والتقاليد المعاصرة في المشاركة السياسية والاجتماعية، في إطار مجتمع مدني فعال وديناميكي، لأن الإعلام لا يعمل في فراغ، بل يجسد دائماً الرؤى الفكرية والثقافية السائدة في المجتمع، في إطار منظومة متكاملة تقوم على منهج واضح ومتناسق، يجمع بين الأصالة ممثلة في قيم الإسلام العظيمة، والمعاصرة ممثلة في ممارسات العمل السياسي الحديث. فبعد مرور أكثر من مائتي عام على حملة نابليون بونابرت على مصر، ما زال العالم العربي يبحث عن رؤية توفيقية، تجمع بشكل متناغم بين القيم والتقاليد العربية الإسلامية وبين الممارسات الغربية المعاصرة في شتى جوانب الحياة.

الفضاء العام حسب هابرماس، ظاهرة إنسانية التداعيات، رغم ارتباطها التاريخي بالمجتمعات الأوروبية في عصر النهضة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ثورة الاتصال والمعلومات قد شكلت بعداً جديداً في مفهوم الفضاء العام، وأحدث ثورة كبيرة في عالم العلاقات الاتصالية المؤسساتية والإنسانية، كما أنها وسّعت الفضاء العام وأسهمت بدرجة كبيرة في إثرائه وتنوعه، مما عزز قيم المشاركة والتفاعل في المجتمع. وإذا كان الفضاء العام يكتسب قيمته وديمومته من مستوى النقاشات والمشاركات التي ينتجها المجتمع في قضاياه، فإن التراث العربي الإسلامي يزخر بمقومات النقاش والمشاركات الفكرية، التي تهدف إلى الحفاظ على هوية المجتمع وتماسكه الثقافي. إنه من الصعب الحديث عن منظومة عربية للفضاء العام بمعزل عن فضاء العولمة، كما أنه من الطبيعي أن تتم مقاربة القضايا الرئيسية المطروحة في إطار عالمي واسع، بدلاً من حصرها في سياقات جغرافية ضيقة. فإذا كانت الممارسات الديمقراطية الحديثة التي تمكن الشعوب من تطوير قدراتها على المشاركة تحمل سمات عالمية، فإن القيم المعنوية الإسلامية هي أيضاً ذات طبيعة إنسانية شاملة، ولا تتقيد بحدود الزمان والمكان.

إن الصيغ المستوردة من الخارج لإصلاح العالم العربي ستنتهي بالفشل، لأنها ببساطة لا تستند إلى الواقع التاريخي والنسيج القيمي والأخلاقي للشعب العربي، الذي يرى في تلك المبادرات غطاء للهيمنة وتحقيق مصالح الدول الغربية، دون مراعاة الخصوصية الثقافية للمجتمعات العربية.

كانت لحقبة التنوير انعكاسات وتداعيات كبيرة على العالم العربي في القرن التاسع عشر، حيث كانت لها تأثيرات على المفكرين العرب أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي، الذين قاموا بمبادرات التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، كما أنهم كانوا أكثر شفافية في التعاطي مع واقع الحياة، في ظل حضور غربي متنامٍ في المنطقة العربية استمر عقوداً من الزمن، من خلال تواجد استعماري قاس امتد لأكثر من قرن. وبموازاة التطور في الفكر السياسي، سواء القومي أو الديني في المنطقة العربية، ظل الإعلام العربي حبيس حالة عدم اليقين، الناجمة عن إخفاق النخبة المثقفة والنخب السياسية والاجتماعية الحاكمة في الوصول إلى صيغة مشتركة تحفظ للأمة هويتها وديمومتها.

إن "دمقرطة" المجتمعات العربية وفق النموذج الغربي كسبيل وحيد للتطور والرقي، وكذلك أطروحات الإصلاح، لم تكن سوى شعارات مهذبة لتحقيق أهداف مبيتة، تمتد مرجعياتها خارج المنطقة العربية. كما تركت حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام فوضى إعلامية في المنطقة العربية، بسبب غياب المهنية والحرفية، وغياب رؤية ثقافية وسياسية واضحة لوسائل الإعلام، التي أصبح معظمها، في ظل ثورة الاتصال والمعلومات، مجرد هياكل مبهرة في مظهرها وخاوية في جوهرها. وسائل ذاب معظمها في ثقافة الاستهلاك والتسطيح والتهميش والتقليد والتبعية، التي أصبحت من مظاهر وسمات العولمة. لكن رغم ما يقال عن سلبية النظام الإعلامي العربي، فإن أمامه إمكانيات جمة لتدارك الوضع، والتحول من السلبية إلى الإيجابية ومن رد الفعل إلى الفعل.

فالإعلام العربي قادر على التطور والازدهار، سواء على مستوى الأداء التكنولوجي أو الخطاب الثقافي والسياسي، أو التأثير في الجماهير، طالما أن هناك إرادة لاستدراك الوضع والنهوض بعزيمة أكثر، خاصة إذا أقبل المثقفون العرب على تقديم قراءة مستنيرة للتراث العربي الإسلامي الأصيل وقيمه العظيمة، قراءة تستمد أسباب قوتها من قدرة الفكر الإسلامي على استيعاب معطيات العصر والتفاعل معها، وإفراز نماذج فعالة في الممارسات السياسية والثقافية، كما أنها تجسد روح وهوية التراث الأصيل، وفي نفس الوقت تستجيب لمتطلبات العصر. وهنا يجب التأكيد على مستويات التناغم بين الحكم الديمقراطي الرشيد والفكر السياسي الإسلامي السديد، حيث يؤكد كل منهما على الحرية والمساواة والأخوة والكرامة الإنسانية، ومحاربة التمييز والظلم والقهر، وعلى التعايش السلمي واحترام الأديان والأعراق.

ومن خلال التأكيد على هذه الأرضيات القيمية المشتركة، يمكن للإعلام العربي أن يؤسس لفضاء عام، مبني على حفظ الهوية باعتباره حقاً مشروعاً للمجتمع، وفي نفس الوقت يعمل على مد جسور التآلف مع النظم الاجتماعية والثقافية الأخرى في العالم.

 

Email