قصة الأمس واليوم والغد

ت + ت - الحجم الطبيعي

ماذا يقول التاريخ عن «جنوب السودان»؟

حتى عام 1898 لم تكن الرقعة ا لجغرافية الأرضية التي تسمى الآن «جنوب السودان»، جزءاً من السودان. ذلك العام كان العام الذي اقتحمت فيه قوة عسكرية بريطانية عظمى أرض السودان، بقيادة الجنرال البريطاني هيربرت كتشز، وبمساندة من مصر الخديوية وأطاحت بحكم الدولة المهدية. وهكذا صار السودان مستعمرة بريطانية على مدى الثمانية والخمسين عاماً التالية.

ورغم أن الدولة المهدية كانت تبسط نفوذها على ما يسمى الآن جنوب السودان، إلا أن تلك الرقعة لم تكن جزءاً من تلك الدولة.

بعد بضعة أيام فقط من انتصاره المؤزر، تلقى كتشز معلومة مؤكدة من بعض من رجال السلطة المهدية المهزومة قادمين من ناحية الجنوب، بأنهم رأوا هناك قوة عسكرية أجنبية أخرى قد رابطت في معسكر ورفعت علماً. «فشودة» كان اسم تلك البقعة، وعلى الفور هرع الجنرال البريطاني إلى تلك البقعة بقوة قتالية بريطانية.

كانت القوة الأجنبية المرابطة فرنسية الجنسية، وكان مقدمها جزءاً من ما عرف تاريخياً بالتسابق الأوروبي الاستعماري نحو إفريقيا السوداء. وكادت تقع حرب في ذلك المكان بين بريطانيا وفرنسا، لولا أن الدولتين توصلتا في اللحظة الأخيرة إلى صفقة دبلوماسية، وافقت فرنسا بموجبها على الانسحاب من تلك البقعة التي سميت لاحقاً بجنوب السودان، على أن تتنازل لها بريطانيا عن بقعة أخرى من الأراضي الإفريقية.

وهكذا ضمت بريطانيا الجنوب إلى الشمال لتكوين وحدة أرضية باسم السودان. ويمكن القول إنه منذ ذلك الحين، كانت تلك هي نقطة البداية لما أطلق عليه لاحقاً «مشكلة جنوب السودان».

كان قراراً خاطئاً. فقد أرادت بريطانيا أن تخلق نسيجاً لوطن واحد بين شعبين متناقضين في كل شيء، لا يجمع بينهما سوى صدفة جغرافية. الشمال عربي والجنوب زنجي.. والشمال مسلم والجنوب وثني.. والشمال موحد بلغة واحدة هي اللغة العربية، بينما يتكون الجنوب من قبائل متعددة تتكلم بأكثر من مائة لغة قبلية، ليست بينها لغة تواصل وطني واحدة. ثم إنه لا يربط بين الشطرين تاريخ مشترك.

القرار كان مستوحى من مصالح بريطانيا الحيوية الجيو-سياسية في ذلك الحين، عند نهاية القرن التاسع عشر. كانت مصر في ذلك الحين محمية بريطانية، ولكي تحكم بريطانيا سيطرتها على مصر الخديوية، فإنها رأت أن استكمال هذه السيطرة لن يتحقق إلا بالتحكم الكامل على النيل، من منابعه في شرق إفريقيا ومجراه.

حينئذٍ كانت كل من أوغندا وكينيا في الشرق الإفريقي، خاضعتين للاستعمار البريطاني، وما بين هاتين المستعمرتين والأراضي المصرية كان هناك السودان. ولاستكمال الحلقات نشأت الإرادة البريطانية لغزو الأراضي السودانية، وبعد أن أطاح كتشز بالدولة المهدية لم يبق لبريطانيا سوى نشر نفوذها على ما سمي بجنوب السودان.

ما يستخلص إذن، هو أن بريطانيا حققت مصلحتها الاستراتيجية بدمج الجنوب مع الشمال، لخلق دولة موحدة اسمها «السودان»، دون أدنى اعتبار للفوارق والتناقضات الثقافية والإثنية والاجتماعية واللغوية والتاريخية. لكن في ما يبدو أن بريطانيا أدركت هذا الخطأ التاريخي الجسيم، بعد أن استتب لها حكم السودان كمستعمرة. لكنها تخبطت في ما تبنت من سياسات لمعالجة الخطأ.

في البدء لم تكن للإدارة الاستعمارية البريطانية سياسة محددة وواضحة المعالم تجاه الجنوب، لكن بحلول عام 1925 كانت الإدارة قد توصلت إلى قناعة نهائية وحاسمة، تقضي بفصل الجنوب عن الشمال، تمهيداً لتحويل الجنوب إلى كيان يرتكز إلى الديانة المسيحية والثقافة الإنجليزية، مما يقتضي الحيلولة دون انتشار الإسلام واللغة العربية هناك.

لكن بعد نحو عشرين عاماً من تطبيق هذه السياسة، توصلت الإدارة البريطانية إلى قناعة مضادة تماماً. فاللغة العربية بقيت لغة التواصل القبلي، والنشاط التبشيري المسيحي الذي كانت تمارسه الجمعيات الأوروبية المسيحية، لم يثمر سوى نتائج متواضعة ضئيلة. إضافة إلى ذلك، تبلورت لدى رجال الإدارة البريطانية الحاكمة، القناعة العظمى الأهم من هذا وذاك، وهي أن جنوب السودان بتناقضاته القبلية المتطاحنة على الدوام، لا يملك العناصر الأساسية اللازمة لإنشاء كيان دولة مستقلة كاملة السيادة.

من هنا قررت الإدارة البريطانية إحلال سياسة الفصل بسياسة جديدة تماماً، تقضي بدمج الجنوب مع الشمال في كيان كبير موحد. كان ذلك في عام 1947، وكان من المقرر تطبيق المشروع التوحيدي بالتدرج على مدى عشرين عاماً. فهل نجح المشروع؟

Email