بين الفَرْسَخ والكيلومتر

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقول فريد زكريا «إن أحد أسباب تفوق الولايات المتحدة هو استثمارها في التكنولوجيا وفي الأبحاث العلمية في مرحلة الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، من خلال دعم الجامعات والاستثمار في المشاريع الصغيرة التي تصب في هذه التخصصات، مما منحها خمسون عاماً من التقدم على بقية دول العالم». وعندما أسمع أحد أبناء جيلي العربي يتساءل عن النهضة ومسبباتها، وكيف يمكن للعرب أن يتولوا زمام الحضارة مرة أخرى، أقول لهم بأن العرب عندما قادوا العالم لم يفعلوا ذلك لوحدهم، بل شاركهم غير العرب من المسلمين أيضاً، فمعظم العلماء والفلاسفة الذين نفخر بمنجزاتهم، هم من المسلمين الذين ينتمون إلى أصول غير عربية، ولكنهم كتبوا بالعربية وعاشوا في كنف الدولة الإسلامية. فلقد كان الإسلام المظلة التي استطاعت أن تجمع الإنتاج الإنساني تحت راية واحدة، بغض النظر عن انتمائه العقائدي، فنقل المسلمون علوم الرياضيات من الهندوس، ثم ترجموا العلوم والفلسفات اليونانية إلى اللغة العربية عن طريق النساطرة النصارى في بلاد الشام، ليستفيدوا منها لاحقاً في منجزاتهم العلمية.

ولذلك لم ترد «اقرأ» كأول كلمة في القرآن صدفة، فالدين الإسلامي الذي أتى ليخرج الإنسان من الظلمات إلى النور، ارتكز على عوامل كثيرة لعملية الإخراج تلك، أهمها هو عامل المعرفة، فالقرآن لم يبدأ بكلمة «وحّد» أو «صلِّ» أو غيرها من المعاني العظيمة، ولكنه دعا إلى القراءة لأنها أساس كل شيء آخر. فعندما يقرأ الإنسان فإنه يصلي أفضل، ويعرف ربّه أكثر فيوّحده بالطريقة المُثلى. القراءة ليست للدين فقط، بل إنها لتطوير حياة الإنسان بكليّاتها وجزئيّاتها، ولتوسيع مداركه حتى يستطيع أن يستمر فيها بطريقة شريفة ومميزة، ومن دون القراءة يتهاوى الناس في غياهب الفقر وينزلقون في درك الجريمة. كم مرة رأيتَ مُجرماً يحمل شهادة ماجستير؟

ولكن السؤال هو: ماذا يقرأ العرب؟ حيث ورد في تقرير التنمية الثقافية الصادرعن مؤسسة الفكر العربي بأن 35% من الكتب التي يقرأها العرب هي كتب دينية، تليها الكتب الأدبية بنسبة 27%، أما التكنولوجيا فتنزوي في ذيل القائمة على استحياء بنسبة 4.4%، وبهذا التقسيم يجب أن يكون العرب أكثر تديناً وأقل انحرافاً، أي أن الغالبية العظمى منهم يغضون البصر! ولا بد أن يكونوا أكثر لطفاً في التعامل مع الناس ويقولون: «من فضلك» كلما طلبوا شيئاً من أحد، ثم يختمون كلامهم بكلمة «شكراً». ويعني أيضاً بأن نسبة الفساد الحكومي في المجتمعات العربية هي الأقل بين العالم، وأن العرب هم الأكثر صدقاً وانضباطاً بين شعوب الأرض، أوليست هذه بعض تعاليم ديننا الحنيف التي نقرأ عنها بنهم كما تقول الأرقام؟ كما أن هذه الإحصائية تعني بأن العرب يتصدرون قائمة الحاصلين على جائزة نوبل للآداب، وإنتاجهم الأدبي يملأ المكتبات العالمية، ولا تكاد تخلو تظاهرة أدبية في العالم إلا ويدعى الأدباء العرب للمشاركة في فعالياتها!

ورد في نفس التقرير أن متوسط ساعات القراءة لدى الأوروبي هي 200 ساعة في العام، أما عند العربي فهي ستّ دقائق، ولذلك، فإن عدد براءات الاختراع العربية المسجلة عالمياً بين عامي 2005 و 2009 لم يتجاوز 475، بينما بلغت براءات اختراع ماليزيا وحدها 566، مع العلم بأن عدد سكان ماليزيا 26 مليون نسمة، وعدد العرب 330 مليون. إن العلوم الشرعية هي أشرف العلوم ولا شك، ولكن إغراقنا في الكتابة والقراءة فيها يجعلنا ندور في حلقة مفرغة، فكلما خرج لنا عالم وفقيه جليل عكف على شرح الكتب الشرعية وتهذيبها في سلسلة لا نهائية من إعادة إنتاج نفس الكتب ولكن بأسماء مختلفة، أما الكتب العلمية والمعرفية الأخرى فإن مساهمتنا في إنتاجها تكاد لا تذكر.

فعندما أقرأ أن رسالة الدكتوراه لأحد الفقهاء الذين أُجلّهم كثيراً كانت في الاقتصاد الإسلامي، ثم ألّف كتاباً في شرح العقيدة الواسطية التي أشبعها العلماء شرحاً وتفصيلاً، وأراه يتحدث حول التوحيد ويُفتي الناس في أحكام الطلاق، أشعر بالأسى لأن مثل هذه العقول النيّرة تعيد تكرار ما قيل قبل ثمانمئة عام. فلقد كفانا الأولون رحمهم الله كتب العقيدة والطهارة، وعلينا إن أردنا التخصص في الدراسات الشرعية أن نبحث في احتياجات العصر، فلم تعد هناك مشكلة في التوحيد في عصرنا كما كانت قبل مئتي عام! وعندما تقرأ في المؤلفات الدينية التي يصدرها طلبة العلم الشرعي اليوم تشعر بأن بعض من كتبها لازال يعيش في قرية صغيرة لا يخرج منها إلا على جمل ليصل المدينة المجاورة بعد شق الأنفس، في زمن تقاس فيه المسافة باليوم والفرسخ، وليس بساعات الطيران وبالكيلومتر!

إننا اليوم نكتب لأنفسنا وعن أنفسنا ثم نعيد قراءة ما كتبناه، ولا نلقي بالا للعالم الذي نعيش فيه، ولا نكتفي بتجاهل البشرية من حولنا، بل يصر كثير منا على مخاطبة الناس بوحدة الفرسخ (5 كيلومترات) ويوحي لهم بأن الحياة المُثلى هي التي عاشها الناس قبل ألف عام، مسببا انفصاماً في شخصية المجتمع الإسلامي. نحن في حاجة إلى كسر طوق (النرجسية الفكرية) والبحث في العلوم الحديثة كما فعل الأميركان واليابانيون، فعندما اجتاحت أمواج البحر أجزاءً من اليابان هرعت الدنيا لإنقاذها خوفاً من انهيارها الذي سيجر معها انهيار الاقتصاد العالمي، فالأمة العظيمة هي التي يحتاجها العالم أكثر مما تحتاج إليه. مشكلتنا ليست في أننا لا نقرأ فقط، ولكنها في ما نقرأ أيضاً.

كاتب إماراتي

Email