طواحين الخوف والتردد

ت + ت - الحجم الطبيعي

في رائعته العالمية (دون كيخوته) يتحدث الروائي الإسباني (سرفانتس) عن بطله الذي يتأثر كثيراً بقراءة قصص الفروسية، فيقرر الخروج بملابس مهترئة وأسلحة صدئة، راكبا حصانا نحيفا لكي يصنع مجدا خاصاً به حتى تروى قصص فروسيته من بعده، على الرغم من أنه لم يكن يوماً فارساً، وبعد مسيرة أيام يرى ثلاثين طاحونة هواء فيقول لحامل سلاحه سانشو: «أمامنا ثلاثون من المردة العتاة بأذرع طوال.

سوف أنازلهم وأسلبهم الحياة جميعاً» فيرد مساعده مستغرباً بأنه لا يوجد هناك أي مردة، وما تلك إلا طواحين هواء بأجنحة تديرها الرياح وليست أذرعاً! إلا أن دون كيخوته يوبخ مساعده ويتهمه بالجبن ثم يندفع لمنازلة الطواحين لوحده، وما أن يصطدم بالطاحونة الأولى حتى يتكسّر رمحه ويطير من على فرسه ويسقط على الأرض. 

إن في كل واحد منا دون كيخوته صغير، يُنصّب له مَرَدة من خياله، ويغزل من خيوط الوهم عقباتٍ لا أساس لها من الصحة، وكلما حاول أن ينجح في حياته يتعذّر بعدم قدرته على تخطي أولئك المردة، الذين قد يكونون على هيئة فقر، أو يأس، أو بطالة، أو أي معضلة من معضلات الحياة، فيقضي حياته بين الخوف منها وبين التردد في مواجهتها.

بين الخوف والتردد يعيش الظلام، ويعشش اليأس الذي يطحن كل فرصة للنجاح، فمخاوفنا هي طواحين من صنع أنفسنا وأفكارنا المليئة بالسلبية. قرأتُ مرة إحصائية تقول بأن الإنسان يسمع كلمة (لا) خلال الثمانية عشر سنة الأولى من حياته أكثر من 148 ألف مرة، بينما لا يسمع كلمة (نعم) إلا بضع آلاف من المرات. 

حيث تتضافر جهود الأسرة والمدرسة والمجتمع على تعزيز المخاوف في نفسه من خلال تحذيره من إتيان أي عمل جديد أو جريء، فيتبرمج عقله الباطن على الإحجام عن القيام بشيء خارج مسار حياته الروتينية، وعندما يواجه تحديات الحياة، فإنه يضخّمها ويصنع منها طواحين عملاقة، إلا أن الفرق هنا بأنه لا يواجهها كما فعل دون كيخوته، بل يستسلم لها ويعيش حبيس قضبانها الوهمية.

 

إن الروتين سرطان الحياة، والخوف وقود التردد، وعندما يحاول الإنسان معرفة كل التفاصيل الدقيقة قبل القيام بعمل جديد فإنه يكرّس التردد، وعندما يُعلي من قيمة تلك التفاصيل فإنه يمارس الخوف، ولذلك فإن المتردد لا يثق بقلبه، والخائف لا يثق بعقله، ولو كانت مخاوفنا حقيقية فلماذا لا يعاني منها غيرنا بنفس الدرجة التي نعاني منها نحن؟

 

إن خوف الإنسان هو رغبته في ألا يكون شيئاً، ليس لأنه غير قادر على التغلب عليه، ولكن لأنه غير مدرك بأنه قادر على ذلك، وإدراك الحقائق هو أول خطوة في بناء الشخصية المستقرة.

 

التردد هو أمنيات لم نثق بها بعد، نعلم بأنها جميلة، ولكننا نخشى أن نتعثر في الطريق إليها، وهذه الخشية ذاتها هي سبب توقفنا، وننسى أن عثراتنا قد تصنعنا أكثر من نجاحاتنا. ولذلك يولي المتردد زمام نفسه إلى غيره ليسوسها، فيفقد السيطرة على مصيره، .

 

ولا يعود له من الحياة سوى انتظار عطف الآخرين وحسناتهم. أما الخائف فإنه يلغي الحاجة إلى المستقبل لأنه يخشى دروبه. قد تبدو دروب المستقبل مظلمة، ولكن الظلام وحده من يمنح النور جمالاً ويدفعنا للبحث عنه، أو لاختراعه بأيدينا. إن عدم ثقتنا بالمستقبل لن يلغي وجوده، ولكنه يلغي وجودنا نحن.

 

عندما أرى مجتمعاتنا العربية يسودها الخوف والتردد أتساءل: هل نقرأ الكتب الصحيحة التي تزرع في نفوسنا الإيجابية وتعزز الشجاعة في داخلنا؟

 

وهل ما نشاهده من أخبار ومسلسلات يدفعنا إلى الطموح بغد أفضل؟ إن غالبية هذه المدخلات الثقافية التي تشكل حيزاً كبيراً من بناء شخصياتنا هي مدخلات سلبية، تقتل في عقلنا الباطن كل إيمان بالنجاح، وتنشر رذيلة الخوف بين أفراد المجتمع. ليس عيباً أن يخاف الإنسان، ولكن العيب أن تسيطر عليه مخاوفه، فالشجاعة ليست غياب الخوف، ولكنها القدرة على التحكم به. 

إن تكرار اللاءات في حياتنا جعلت من السلبية حالة طبيعية، ومذ أن كنا صغاراً كنا نسمع تحذيرات مثل: «لا تفعل هذا، هذا عيب، هذا غير لائق، ماذا سيقول عنك الناس!» لتنعكس تلك العقد على ممارساتنا الحياتية، .

ويصبح الناس قضاة علينا في محكمة المجتمع المجحفة. فعندما تذهب لشراء ملابس جديدة فإنك تفكر في رأي الناس، وعندما تضحك في مكان عام فإنك تفكّر في صورتك أمام الناس الجالسين حولك، وعندما تفكر في الزواج، فإنك تكون حذراً جداً في اختيار شريك حياتك لكي يتوافق مع توقعات الناس، وفي خضم كل هذه الإرباكات الاجتماعية ينسى الإنسان أن يمارس حريته دون أن يتدخل الكون كله في تفاصيل حياته!

الخوف يشبه عيش امرأة مع رجل لا تحبه، والتردد يشبه عيش رجل مع امرأة لا يثق بها، الأولى تموت كمداً، والثاني يموت قلقاً. لكي تتخلص من الخوف عليك أن تفهم نفسك، ولكي تتخلص من التردد عليك أن تفهم الحياة

. فهم النفس يأتي بالاستماع إليها وبتدريبها، وفهم الحياة يأتي بخوض تجاربها وتحمّل آلامها. قد يخسرك ذلك العمل وقتا، ولكنه سيمنحك عمرا. 

. اكسر حاجز الخوف لترى ما يوجد خلفه، ثم واجه مخاوفك دون تردد لأنها حتماً ستواجهك، والأشياء التي تخيفك هي الأشياء التي يجب أن تبدأ بها أولاً، ثم لا تيأس من تكرار المحاولة، فكما قال سرفانتس: «الوقت يُنضِجُ كل شيء».

كاتب إماراتي

Email