سلام على وهم السلام

ت + ت - الحجم الطبيعي

سلسلة الخطابات العلنية المنفردة والمشتركة لكل من الرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو، خلال الثلث الأخير من شهر مايو المنصرم، وضعت حداً للكثير من الأوهام التي أسست لها خطابات الرئيس الأميركي في كل من مصر وتركيا واندونيسيا في مستهل ولايته الرئاسية.

الخطابات التي ألقيت من على منابر أميركية، سواء في البيت الأبيض، أو مقر مجلس النواب والشيوخ الأميركيين أو في المقر الذي عقدت فيه منظمة إيباك مؤتمرها، تلك الخطابات جاءت وكأنها أقرب إلى مشاهد السجالات بين مرشحي الرئاسة الأميركية، يمثل فيها أوباما مرشح الديمقراطيين، بينما يمثل فيها نتانياهو دور ممثل الجمهوريين رغم أنه يحمل جنسية إسرائيلية.

كان خطاب أوباما الذي تضمن رؤية بلاده للتطورات الجارية في الشرق الأوسط وبضمنها الموقف من عملية السلام، كان ذلك الخطاب الطلقة الأخيرة في جعبة الرئيس الأميركي الذي يأمل أن تؤدي إلى تحقيق اختراق في الجمود الذي يسود المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية وعملية السلام، لكنه أيضاً كان عبارة عن رصاصة الرحمة على تلك العملية.

لم ينتظر نتانياهو طويلاً، وربما قصد أن يهوم الرجل في عقر داره ولإلحاق إهانة أخرى بالرئيس أوباما، ففي البيت الأبيض وبعد لقائهما، أعلن رفضه لمبادرة أوباما التي تتحدث عن استئناف المفاوضات، انطلاقاً من حدود الرابع من حزيران عام 1967، كحدود للدولة الفلسطينية مع الإقرار بتبادلية الأراضي.

جاء موقف نتانياهو الذي أعلن فيه أن إسرائيل لن تعود أبداً عن حدود الرابع من حزيران 1967 صاعقا، و أن أمن دولته يتطلب البقاء والسيطرة على الحدود الغربية مع الأردن، بما في ذلك أساساً منطقة غور الأردن. وعلى الرغم من محاولات الرئيس الأميركي توضيح ما يقصده من وراء مبادرته، بما يجعلها تقترب كثيراً من الموقف الذي طرحه نتانياهو، إلا أن الأخير تمادى في عنجهيته، فعاد وأكد أمام المؤسسات التشريعية الأميركية بكل مفردات السياسة الإسرائيلية التي لا تترك منفذاً ولا صغيراً، لأية مراهنة على إحياء عملية السلام، حتى لو جاءت المحاولة من الولايات المتحدة أو من غيرها.

الحماس العارم الذي قوبل به خطاب نتانياهو في مجلس الشيوخ والنواب الأميركيين شكل ضربة شديدة القسوة للرئيس الأميركي من قبل مواطنيه، فلقد بدا وكأن الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، يتبنون حتى العظم السياسة الإسرائيلية في أقصى درجات تطرفها، كما يعبر عنها التحالف الحكومي القائم في إسرائيل. وهكذا ينهي رئيس الحكومة الإسرائيلية فصلاً طويلاً من المحاولات الأميركية الدؤوبة التي بدأت مع ولاية الرئيس باراك أوباما قبل نحو عامين ونصف، كانت محملة بوعود زاهية، ولكنها ذهبت سدى.

فلقد انكشف مستور المناورات الإسرائيلية بشأن الممكن في تحقيق السلام، حتى أصبح العالم يعرف أكثر عن مدى تطابق رؤى مصالح إسرائيل والولايات المتحدة، حين يتعلق الأمر بالحقوق الفلسطينية والعربية. والحقيقة أن نتانياهو أدرك منذ البداية مدى استعداد الرئيس الأميركي ومدى قدرته على تحدي ثوابت العلاقات الأميركية- الإسرائيلية، التي يلعب اللوبي اليهودي الأميركي دوراً أساسياً في صياغتها، وأيضاً مدى استعداد وقدرة الرئيس أوباما على تحدي السياسة الإسرائيلية، فما كان منه (نتانياهو) إلا أن يمعن في جرجرة رئيس الدولة الأعظم، وأن يرغمه على التراجع تلو التراجع وعلى تجرع المزيد من الإهانات.

إذا كان بنيامين نتانياهو قد أدرك ذلك، ومارس ضد الإدارة الأميركية عملية ابتزاز رخيصة وتعاون مع الجمهوريين في الولايات المتحدة، لإضعاف صورة الرئيس الأميركي، وتقليص فرصه في الفوز بولاية رئاسية ثانية في الانتخابات التي ستقع نهاية العام المقبل، فإن ردود الفعل التي حكمت مواقف الرئيس أوباما، لم تخرج عن سياق محاولات استرضاء إسرائيل، وغدا من الداعمين لها، دون أن يدرك بأن المحصلة ستشكل ملامح صورة مرشح للرئاسة ضعيف ومتردد.

الفلسطينيون بدورهم أدركوا، بأن المفاوضات لم تعد خياراً استراتيجياً أساسياً لانتزاع الاعتراف بحقوقهم، فخلال ما يقرب من ثمانية عشر عاماً منذ توقيع اتفاقية أوسلو، لم تفلح كل محاولات المجتمع الدولي، ولا كل التنازلات التي يمكن للفلسطيني أن يقدمها، من أن تفتح نافذة صغيرة نحو السلام، ذلك أن إسرائيل تصر على أن تفرض رؤيتها للسلام بما يصادر كل الحقوق الفلسطينية. ويعترف الفلسطينيون أيضاً بأنه إذا كان خيار المفاوضات قد فشل، وبلغ نهاياته المأساوية، فإن خيار المقاومة المسلحة كخيار وحيد، لم يفلح هو أيضاً في تحقيق إنجازات، ولذلك كان لابد من إعادة صياغة الوضع الفلسطيني والخيارات والاستراتيجيات على أساس الوحدة، وانطلاقاً من رؤية واقعية لما تحمله قادم الأيام من تطورات تشهدها الساحة العربية.

تتعلق القضية بموازين القوى، وبقدرة الفلسطينيين على استثمار مرحلة ربيع الثورات العربية، وعكس رؤية الرأي العام العالمي إزاء الصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي، لإحداث تعديل متدرج على ميزان القوى بمفهومه الواسع، لإرغام إسرائيل على التخلي عن أطماعها، والاعتراف بالحقوق الفلسطينية والعربية. وربما لأسباب أخرى عدا عن هذا السبب، جاءت موافقة حركتي حماس وفتح على وثيقة المصالحة سريعة ومفاجئة على اعتبار أن استعادة الوحدة قد أصبحت هدفاً ومصلحة وطنية وفصائلية بامتياز.

وبغض النظر عن أن مفردات السلام والمفاوضات، والجهود الدولية قد اقتحمت خطاب الصراع، وباتت في كثير من الأحيان تطغى على مفردات المقاومة، إلا أن هذه قد فقدت مضامينها، وتحولت إلى مجردكلاشيهات، أو وسائل للتعبير عن حالة الصراع أكثر مما هي للتعبير عن حالة تتصل بممكنات الصراع، فضلاً عن كونها مجرد أسلوب لمخاطبة الرأي العام العالمي بلغ مفهومه، لكسب تعاطفه، أو لانتزاع ذرائع إسرائيلية. وبالرغم من قسوة وتطرف المواقف التي أعلنها بوضوح رئيس الحكومة الإسرائيلية، والتي تدعمها على الأرض ممارسات يومية، وبالرغم أيضاً من خيبة الأمل التي تتركها الردود والمواقف الأميركية، إلا أن ثمة فائدة، فالصراع يعود إلى بداياته، وعلى الفلسطينيين والعرب أن يشحذوا هممهم على نحو مختلف، وأن يدركوا آليات تحقيق القوة، لاستعادة حقوقهم في ظل فضاء عربي واعد.

 

كاتب فلسطيني

Email