«نحن أحق بالشك من إبراهيم»

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت ليلة عظيمة تلك التي قضاها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام متسائلاً وباحثاً عن الحقيقة، فبعد أن تنقل إيمانه من الكوكب ثم القمر فالشمس، وصل في نهاية المطاف إلى معرفة ربه. ولكن الأهم من ذلك كله هو أن تساؤلات إبراهيم لم تتوقف عند إيمانه بالله تعالى، بل إنها امتدت إلى ما بعد ذلك حين سأل ربه: «قال ربِّ أرِني كيف تُحيي الموتى، قال أولم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي». تُرى كيف سيبدو حال أحدنا لو ذهب إلى رجل دين وسأله: «أثبت لي أن الله قادر على إحياء الموتى»؟

إن تساؤلات الإنسان هي جزءٌ من تركيبته البيولوجية المتمثلة في العقل، وامتدادٌ لطبيعته النفسية التي يُطْرِبُها الشك، ويُؤنسها البحث عن الحقيقة، والواضح من سياق الآيات أن الله تعالى لم يعاتب إبراهيم أو يوبخه، ولم يؤخر الاستجابة لطلبه أيضاً، بل أثبت له على الفور قدرته على إحياء الموتى في قصة الطير المعروفة. فالأسئلة والتساؤلات، التي تنطوي على نبرة اعتراضية، كقول الملائكة : «أتجعل فيها من يُفسد فيها» هي إحدى المكونات الوجودية التي وضعها الله عز وجل في صلب تركيبة مخلوقاته، فلقد بدأت عند خلق الإنسان حين سأل الله ملائكته: «فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين» ولازمت الأنبياء كسؤال موسى عليه السلام: «ربي أرني أنظر إليك» ثم تساءل الفلاسفة والعلماء بعد ذلك، بل إن الإنسان يتساءل حتى وهو في الجنة: «إلا أصحاب اليمين، في جنات يتساءلون، عن المجرمين».

وعندما نتتبع تاريخ الحضارات في العالم، نجد بأن الحضارات العظيمة قد بدأت بالتساؤل والشك، ولا أدري لماذا يربط الناس كلمة (شك) بالتكذيب والفرق بينهما كبير، فالشك هو نقيض اليقين، والتكذيب يعني الإنكار. كونفيشيوس وسقراط بدءا بالتساؤل حول الأخلاق والأنظمة الاجتماعية السائدة في الصين وأثينا آنذاك، وكانا يطرحان الأسئلة القاسية على الناس ليُلقيا الشك في نفوسهم حول الممارسات والمعتقدات الاجتماعية الفاسدة، ويدفعاهم للبحث عن ممارسات أخلاقية وحضارية.

وعندما قامت حضارة المسلمين إبان الدولة العباسية، كان صراع الأشاعرة والمعتزلة وتلامذة أحمد بن حنبل، الذي دار حول العقيدة أولاً ثم تطور مع مرور السنين ليؤسس فلسفة إنسانية حقيقة تبلورت في شكل إنتاجٍ فكري وعلمي خلاق، قائماً على الشكوك والتساؤلات الطاحنة التي لم تعرف الحدود. وعلى الرغم من تجاوز بعض تلك التساؤلات لكل الخطوط الحمراء لتصل إلى الذات الإلهية، إلا أنها أفادت في استنباط أدلة عقلية للرد عليها، فأصبحت العقيدة أكثر رسوخاً في قلوب المسلمين ووصلت حضارتهم إلى قمتها. وفي اليوم الذي أُحرِقَت فيه كُتب ابن رشد الذي كان أكثر فلاسفة المسلمين تساؤلاً وجرأة، بدأت حضارة المسلمين بالانحدار.

وعندما استلمت أوروبا زمام الحضارة، انطلقت من تساؤلات مصلحيها كــ«مارتن لوثر» في ألمانيا و«جان كالفن» في سويسرا، ومن ثم تساءل فلاسفتها في إنجلترا كــ«نيوتن وجون لوك وفرانسيس بيكون»، الذين شحذوا تساؤلات الفلاسفة الفرنسيين من أمثال «فولتير وجان جاك روسو وديدرو وغيرهم»، فيما عرف آنذاك بـ (عصر العقل). ويلاحظ المتتبع لتلك الحركات الإنسانية الكبرى في التاريخ أن الرابط المشترك بينها كان الشك والتساؤل، فالكل كان يبحث عن الحقيقة «ليطمئن قلبه». لقد صدق ديكارت عندما قال بأن «الشك يقود إلى اليقين»، والحقيقة الحقّة هي التي تقود إلى تساؤلات أخرى لكي تتطور الحياة.

على الرغم من أن القرآن يحضنا على التساؤل في كثير من آياته، إلا أن الخطاب الديني اليوم يشعر بحساسية مفرطة تجاه هذا الأمر، ويعتبر المتسائلين حول بعض القضايا الدينية الحساسة مارقين من الدين، ثم إنه يعتمد في أطروحاته على تفاسير الأولين وشروحاتهم للنصوص المقدسة، والتي كانت نابعة من فهمهم آنذاك بما يتناسب مع ظروفهم ومستوى المعرفة في زمانهم، ولذلك فإنه يعجز، عن تقديم أجوبة مقنعة لبعض التساؤلات الكبرى التي يطرحها المسلمون اليوم حول القضايا الدينية. لقد صرنا في حاجة إلى تفاسير وشروحات جديدة للقرآن والسنة، ممتدة من التفاسير القديمة العظيمة، ولكنها ليست ملزمة بكل حرف ورد فيها، حتى يحدث التقارب المرجو بين النصوص الشرعية وبين عقول الناس وتطلعاتهم واحتياجاتهم العصرية، فالأنساق الفكرية اليوم تختلف كثيراً عما كانت عليه قبل ألف عام.

كما أننا نحتاج إلى التوغل في تفاصيل السيرة النبوية لكي نفهمها أكثر ونسقطها على واقعنا، فعندما أقرأ قصة المرأة الغامدية التي أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم عليها حد الزنا وهي محصنة، فأعادها حتى وضعت ما في بطنها وأرضعته، ثم بعد أن فطمته أقام عليها الحد، أتساءل: لقد قضت قرابة ثلاث سنوات منذ اعترافها بذنبها حتى رُجِمَت، فأين كان زوجها وأهلها خلال تلك الفترة؟ ولماذا عوملت كإنسان ولم يُعتدى عليها على رغم عظم جرمها؟

ولماذا لم يُسلط الضوء في كتب التاريخ على هذا الجانب الإنساني والمشرق والحساس في السيرة؟ وعندما أقارن تلك الواقعة بواقعة قيادة منال شريف للسيارة فإنني لا أملك إلا أن أشعر بالامتعاض والأسى حين يصفها بعض رجال الدين بأنها (فاسقة وباطنية)! إن العقول التي لا تتساءل هي عقول فاسدة، وعندما يُهمش دور العقل فعلينا ألا نستغرب من انحطاط الأمة وتقلص دورها بين أمم العالم، فالأمة التي يُحرم أبناؤها وبناتها من فهم كتابهم المقدس، ويُطلب منهم الرجوع إلى رجال الدين في كل ما يتعلق بالنصوص الشرعية، هي أمّة تنتمي للقرون الوسطى. يقول صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرِني كيف تُحيي الموتى» وإذا كان عليه الصلاة والسلام يحضنا على الشك والتساؤل، فلماذا نُصر نحن على إحالة عقولنا إلى التقاعد؟

 

كاتب إماراتي

Email