التحول الكبير

ت + ت - الحجم الطبيعي

مختلف كان المشهد الفلسطيني في الذكرى الثالثة والستين للنكبة الذي يصادف الخامس عشر من مايو كل عام، فلقد جعلت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يصرح مذهولاً بما مضمونه أن ما جرى في داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وعلى حدودها يؤكد أن الفلسطينيين لا يبحثون عن السلام مع إسرائيل بل انهم يسعون إلى فنائها.

 

الظروف الفلسطينية والعربية والدولية الراهنة بآفاق تحولاتها الاستراتيجية، جعلت من مناسبة إحياء ذكرى النكبة، مؤشراً وعلامة فارقة على تحولات هامة، في سياق وأشكال وتجليات الصراع العربي- الإسرائيلي.

 

. فعلى الصعيد الفلسطيني، شهدت الساحة الفلسطينية تحولاً نحو المصالحة الوطنية واستعادة الوحدة، ما جعل ذكرى النكبة يوماً وطنياً، اختلطت فيه رايات مختلف فصائل واتجاهات العمل الوطني الفلسطيني داخل وخارج أرض فلسطين التاريخية، بخلاف ما كان يجري في هذه المناسبة خلال سنوات الانقسام الأربع الماضية، .

 

حيث انشغل أطراف الانقسام كل في منع الطرف الآخر من القيام بمثل هذه النشاطات الشعبية. يتأكد للفلسطينيين أن الوحدة الوطنية هي أصل وفرع الصمود الفلسطيني، وتجنيد كل الطاقات أينما تواجدت، وأنها الأمل في توحيد العرب، وتعزيز التضامن الدولي حول القضية الفلسطينية ومعها.

 

في ذلك اليوم توحدت رسائل الفلسطينيين للعالم أجمع، فهم جزء لا يتجزأ من أمتهم العربية، وهم موحدون خلف أهدافهم الوطنية، بما فيها وأساساً، التمسك بحق عودة اللاجئين على أساس قرار الأمم المتحدة رقم 194، وأن أي قيادة فلسطينية ليس بمقدورها القبول بأي تسوية أو حل سياسي ينتقص من الحقوق الفلسطينية كاملة.

 

لقد أبدى فلسطينيو الشتات والداخل استعدادهم لدفع ثمن استرداد حقوقهم وقبلها استعادة دورهم الفاعل في النضال الفلسطيني، فخلال ساعات معدودة، تجاوز عدد الشهداء على الحدود اللبنانية والسورية مع فلسطين العشرة، بالإضافة إلى مئات الجرحى.

 

يفترض أن تكون رسالة اللاجئين الفلسطينيين المتمسكين بحق عودتهم إلى ديارهم قد وصلت أيضاً إلى صناع القرار، والرأي العام في الدول المهتمة بعملية السلام، التي تبحث عن حلول للاستعصاء التفاوضي عبر صيغ ومبادرات، تتضمن إسقاط حق عودة اللاجئين، وموافقة الفلسطينيين على يهودية الدولة الإسرائيلية مقابل الاعتراف بحدود الرابع من حزيران 1967 كأساس للدولة الفلسطينية.

 

وفي ضوء ذلك يفترض أن الرسالة الشعبية الفلسطينية والردود الإسرائيلية عليها التي ترفضها كلياً، قد خلقت مناخاً، لا يشجع الدوائر الأميركية والأوروبية على مواصلة البحث عن تخريجات غير مقنعة لدفع عملية السلام.

 

المعطيات المقرورة على الأرض في راهنها، وفي صيرورتها القريبة الأمد، تفيد بأن عملية السلام، قد دخلت نفقاً مظلماً، .

 

وأن المجتمع الدولي وإسرائيل قد صنعوا فرصاً عديدة لتحقيق سلام بأثمان زهيدة، ذلك أن اختلاف البيئة الفلسطينية والعربية والدولية، من شأنها أن تعيد الصراع إلى بداياته وإن بأشكال وآليات مختلفة، وأن تزعم إسرائيل على دفع أثمان باهظة للسلام في حال توفرت ظروف مواتية لتحقيقه.

 

إن على إسرائيل أن تدفع ثمن تطرفها وتعنتها الذي يدفعها لمقابلة التغييرات الفلسطينية والعربية، إلى الاستعداد لشن حروب متعددة كما يقول نتنياهو الذي لا يكف عن التعبير عن قلقه إزاء ما يشهده المحيط العربي من ثورات شعبية خصوصاً في مصر ودول الطوق

 

. فعدا عن توحد الفلسطينيين، مما يفشل أهداف إسرائيل التي رقصت على أنغام الانقسام الفلسطيني، فإن ربيع الثورات العربية يحمل لهذه الإسرائيل بشائر سوداوية، فالقضية الفلسطينية تستعيد مكانتها باعتبارها قضية العرب المركزية الأولى، ويتصاعد المناخ العربي المعادي لإسرائيل يوماً بعد آخر.

 

الفلسطينيون الذين قرروا استعادة وحدتهم وبغض النظر عن خلافاتهم واتجاهاتهم طالما أنها تنتظم تحت سقف واحد، الفلسطينيون أدركوا أكثر من أي وقت مضى، أهمية التوجه إلى الرأي العام العالمي بمختلف مستوياته وتعبيراته، كما أدركوا ضرورة تحريك أشكال النضال بما يجعل رسالتهم للمجتمع الدولي أكثر قبولاً، وتأثيراً، لصالح حقوقهم وقضيتهم.

 

ومن الواضح أن التغييرات الإيجابية الجارية والمرتقبة على الوضعين الفلسطيني والعربي، تتلاقى مع فضاء دولي عام، تحظى فيه المطالب الفلسطينية بتعاطف متزايد مقابل ما تعانيه إسرائيل من عزلة متزايدة، فيما تصاب الولايات المتحدة بحرج شديد جراء مواصلتها الدفاع عن حليفتها إسرائيل، التي لا تتوانى عن ارتكاب أفظع الجرائم ومواصلتها التصرف كدولة فوق القانون.

 

إن أقل التقديرات تشير إلى أن أكثر من مئة وأربعين دولة من المتوقع أن تصوت في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل، لصالح مشروع قرار فلسطيني يطالب بالاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم على حدود الرابع من حزيران عام 1967، الأمر الذي سيشكل تحولاً آخر في طبيعة الصراع الفلسطيني والعربي- الإسرائيلي، لصالح القضية الفلسطينية ولتقطع الطريق على هذا الإنجاز السياسي المرتقب، تسعى دوائر عديدة أميركية وأوروبية وإسرائيلية، .

 

لتقديم مبادرات غرضها إجهاض التوجه الفلسطيني، غير أن الوقت قد فات كثيراً على إمكانية نجاح مثل هذه المبادرات التي تتسم بالمناورة والتضليل، أكثر من كونها تستهدف تصحيحاً حقيقياً لشروط وبيئة المفاوضات الفلسطينية والإسرائيلية.

 

. الطريقة التي أحيا فيها الفلسطينيون والعرب ذكرى النكبة هذا العام، والتصرف الإسرائيلي الإجرامي في مواجهة المظاهرات السلمية، يعزز لدى القيادات السياسية الثقة بإمكانية وضرورة الاعتماد على شعبهم وعلى أمتهم العربية، .

 

ويضعف إلى حد كبير أصوات المراهنين على سياسة أميركية منصفة، فسيد البيت الأبيض محكوم لطموحه الشخصي بالفوز في ولاية رئاسية ثانية، ما يجعله أكثر استعداداً لاسترضاء إسرائيل واللوبي اليهودي الأميركي، لكن عبثاً يحاول أوباما، مع طرف لا يؤمن جانبه.

 

سيكتشف أوباما إن لم يكن قد اكتشف ولكن بعد فوات الأوان، أن عليه أن يدفع ثمن تردده وعجزه، فمطرقة الابتزاز الإسرائيلي واللوبي اليهودي الأميركي على رأسه، وسندان الأغلبية الجمهورية في الكونغرس الأميركي من تحته، فيما لم يعد لديه ما يكفي من الوقت حتى الانتخابات الرئاسية، لفعل ما قد يساعده على تعزيز فرصة بالفوز.

 

إن كل الدلائل والمعطيات تشير إلى أن عملية سلام الشرق الأوسط تشهد تراجعاً مضطرداً يصل إلى حد الجمود، وأن ما يطرح من أفكار ومبادرات، إنما يستهدف من قبل الإدارة الأميركية مواصلة احتكار الملف، ومن الأوروبيين محاولة تصعيد دورهم السياسي، ومن الإسرائيليين مواصلة وتبرير أطماعهم التوسعية واتجاهاتهم العدوانية.

 

وهكذا يتحول يوم نكبة الفلسطينيين هذا العام إلى بشائر نكبة مقبلة للإسرائيليين، لكن شروط هذا التحول يستدعي استعجال الفلسطينيين وإخلاصهم، إزاء تنفيذ ما تعاهدوا عليه، وتعزيز وتصليب وحدتهم الوطنية.

Email