محمد يونس.. لا كرامة لنبي في وطنه

ت + ت - الحجم الطبيعي

في أيامنا هذه قلما نسمع عن رجل من طراز محمد يونس، كرس حياته للمساكين والمحرومين. فبدلاً من أن يركن هذا الرجل لرغد العيش والحياة المرفهة المتاحة له، اختار الانخراط في حملة دؤوبة ضد الفقر، متسلحاً بمبادرة القروض الصغيرة التي حققت نجاحاً باهراً فاق كل التوقعات.

لكن، كما يقال، لا كرامة لنبي في وطنه. فجائزة نوبل للسلام التي تلقاها يونس في ‬2006 ـ مع المؤسسة التي أسسها في ‬1983 ـ تمثل بالنسبة لملايين الناس اليوم، أفضل فرصة لإيجاد عالم بدون فقر. انطلاقاً من التجربة التي قادها في قرية جوبرا، عمل يونس ليل نهار، بمساعدة فريق من المساعدين المتفانين، على بناء بنك غرامين بكل صبر ومثابرة. واليوم يعتبر البنك أكبر وأشهر مؤسسة مكرسة لما يسمى بالتمويل الأصغر في العالم، وقد منح خلال ‬2010 أكثر من مليار دولار على شكل قروض صغيرة لحوالي ‬8,4 ملايين شخص، ‬96 منهم من النساء القرويات.

وقد أصبح بنك غرامين المشروع الرائد في صناعة فتحت الباب في ‬2009، أمام ‬190 مليون عائلة فقيرة في مختلف أنحاء العالم، للاستفادة من الخدمات المالية.

وحتى خلال نضاله لدفع عجلة هذه الثورة الاستثنائية نيابة عن فقراء العالم، واجه يونس مصاعب جمّة في التعامل مع حكومة بلاده. فلقد سعت حكومة بنغلادش طيلة سنوات، لإفشال البروفيسور يونس، عن طريق مناهضة معدلات الفائدة المرتفعة، التي تعتبر شرطاً أساسياً لنجاح نظام التمويل الأصغر، لأنها لا تسمح بتغطية التكاليف الإدارية المرتفعة. وأخيرا، تم إهداء ذريعة على طبق من فضة للمسؤولين الحكوميين، حيث اتهم فيلم وثائقي نرويجي يونس بالتلاعب بطريقة غير قانونية، بأموال تبرعت بها وكالة الإعانات البنغالية في ‬1996. وانتهزت رئيسة وزراء البلاد الشيخة حسينة، هذه الفرصة للتأكيد على أن الدكتور يونس تعامل مع بنك غرامين «كملك خاص له»، وزعمت أن يونس كان «يمتص دم الفقراء». وكنتيجة لهذا كله، تم في الثاني من مارس الماضي، إعفاء يونس من مهامه كمدير عام لبنك غرامين، على أساس قانوني يستند إلى حقيقة أنه تجاوز سن التقاعد. إنه أمر مدان أخلاقياً، ومن الواضح أن السبب الحقيقي وراء هذه الهجمة، هو انتقاد يونس للحكومة في السنوات القليلة الماضية، ومحاولته في ‬2007 تأسيس حزب سياسي. وفي ‬6 إبريل الماضي، رفضت المحكمة العليا في بنغلادش الطعن الذي تقدم به ضد قرار إحالته القسرية إلى التقاعد.

ولم تأخذ الحكومة البنغالية بعين الاعتبار، حقيقة أن الحكومة النرويجية صرحت بأنه ليست هناك أية دلائل تشير إلى أن بنك غرامين متورط في أية أعمال فساد أو احتيال. ولم تأخذ في الاعتبار أيضاً حقيقة أن لجنة نوبل قبل أن تقرر منح جائزة السلام للبروفيسور يونس وبنك غرامين في ‬2006، كانت قد محصت ودققت في سجلاتهما، ولم تجد أي شيء يثير الشبهات حول أمانتهما (ولقد أظهرت دراسة لاحقة قام بها ديفيد بيرجام أن الادعاءات التي ساقها الفيلم الوثائقي عارية عن الصحة).

وتملك الحكومة البنغالية ‬25٪ فقط من بنك غرامين، في حين يسيطر المقترضون أنفسهم على ‬75٪ من مقاعد مجلس الإدارة، وساهموا بنسبة ‬96,5 في رأس مال الأسهم المدفوع. وهذه الحقائق وحدها تشير إلى أن الحكومة هي التي أساءت استخدام حقوق ملكيتها، وليس يونس.

والرهان هنا أكبر من الصراعات الشخصية، التي يبدو واضحاً أنها أساس هذا الإخفاق السياسي التام. سيتمكن بنك غرامين على الأرجح من اجتياز أزمة رحيل محمد يونس، فهذه المؤسسة مؤلفة من ‬25000 موظف، وتتم إدارتها بشكل ممتاز. والبروفيسور يونس نفسه كان قد عبر عن نيته التقاعد في عدة مناسبات سابقة، ونقل مسؤولياته إلى شخص كفؤ يستطيع المحافظة على ثقة ملايين الأعضاء الذين يملكون البنك.

لكن يونس لديه الحق في التعبير عن رأيه في الأمر، واتخاذ القرار باستبداله بهذه الطرقة التعسفية، تصرف غير مسؤول بالمرة، لأن مثل هذا التغيير المفاجئ يمكن أن يقوض الثقة بين الموظفين والمدخرين والمقترضين، على حد سواء، مما قد يتسبب في هروب المدخرين وتخلف المقترضين عن سداد ديونهم. وإذا تكون لدى الناس انطباع بأن هناك تلاعبا سياسيا وراء الكواليس، فسوف تنجم عن ذلك أضرار جسيمة ومستديمة تعرض مستقبل البنك للخطر.

إن بنك غرامين لا مثيل له في عالم البنوك التقليدية، فالعاملون فيه يظهرون اهتماماً بالغاً بالفقراء، ويمضي كل منهم حوالي سنة يعيش فيها بين الناس الذين يعمل البنك على مساعدتهم. وبالنظر إلى هذا التناغم الوثيق بين المؤسسة والمبادئ الأخلاقية لمؤسسها، لا بد من التعامل مع عملية تغيير القيادة بأقصى درجات العناية. ومن شأن أي مراقب عاقل أن يتساءل؛ لماذا تتم زعزعة استقرار هذه المؤسسة الرائدة في صناعة التمويل الأصغر؟

فبعد عصر التوسع الذهبي، أصبح قطاع التمويل الأصغر قطاعاً ناضجاً من الاقتصاد العالمي. لكنه لا يزال يواجه بعض التحديات والأسئلة المشروعة، بشأن ربحيته ومعدلات فوائده وقدرته على توليد نشاط اقتصادي حقيقي، يتجاوز مجرد توفير مصدر رزق للفقراء. والإجابة على كل هذه الأسئلة الصعبة، تتطلب وجود شخص بخبرة ومعرفة محمد يونس. وأنا شخصياً أعرف يونس جيداً. التقينا لأول مرة في ‬1998، عندما جئت لتنفيذ مشروع لمجموعة السبع يهدف إلى مساعدة بنغلادش في منع كوارث فيضاناتها المتكررة، وأصبحنا بعدها أصدقاء، وأسسنا «بلانت فاينانس» معاً. وأكثر ما أعجبني في شخصيته، أنه لا يقول أبداً إنه يعرف الحلول، بل يذهب ويواصل التجريب ويقوم بتكييف مؤسسته لملاءمة الاحتياجات والفرص على الأرض. ومما لا شك فيه أنه كان من أهم رواد تنظيم عمل التمويل الأصغر، بطريقة مدروسة تسمح لهذه الصناعة بالوفاء بوعودها. من الخطأ اتخاذ القرارات السياسية بناءً على صراعات شخصية، خاصة عندما يتعلق الأمر بمكافحة الفقر العالمي. وتعامل الحكومة البنغالية مع محمد يونس بهذه الطريقة، مشين ويؤثر سلباً على جهود مساعدة الفقراء في بلده.

Email