غولدستون وأسطورة «العدالة الدولية»

ت + ت - الحجم الطبيعي

في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، صدر حكم بالسجن على الفيلسوف الفرنسي رجاء غارودي، بسبب نشره كتاباً انتقادياً عن الأساطير التاريخية التي تبتكرها الحركة الصهيونية العالمية، للترويج لخرافة أن اليهود «شعب الله المختار».

وبعد غارودي نشر أكاديمي ألماني متخصص في مادة التاريخ، مقالة أعلن من خلالها اعتزامه إعادة كتابة تاريخ الحقبة النازية، بما يؤدي إلى رد الاعتبار للزعيم الألماني أدولف هتلر وثورته على الحركة اليهودية العالمية.

وبعد ذلك نشر أكاديمي بريطاني كتاباً يتضمن رؤية تاريخية مماثلة لرؤية رفيقه الألماني.

غارودي لا يزال رهن الحبس، والأكاديمي البريطاني ألقي القبض عليه في العاصمة النمساوية (فيينا) عندما كان هناك في زيارة خاصة، وحكم عليه بالسجن. أما الأكاديمي الألماني فقد أقلع عن مشروعه ملتزماً السكوت حتى اليوم، بعد أن تلقى ضغوطا وتهديدات يهودية.

الآن نشهد حدثاً يتسلسل أمامنا بشأن شخصية تعتبر نجماً من نجوم القانون الدولي. فهل تذكرون القاضي الدولي ريتشارد غولدستون؟

غولدستون مواطن من جمهورية جنوب إفريقيا، لكن الأهم من ذلك أنه يهودي.

لقد قبل هذا الحقوقي المتميز، تكليفاً من هيئة الأمم المتحدة ليكون على رأس فريق من خبراء القانون الدولي، للتحقيق في مجريات الحرب التي شنتها إسرائيل عند نهاية عام ‬2008 وبداية عام ‬2009 ضد أهل قطاع غزة.

وما إذا كانت القوات الإسرائيلية قد ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، علماً بأن العدوان الإسرائيلي قد خلَّف أكثر من ‬1400 من القتلى الفلسطينيين في غضون ‬21 يوماً.

ورغم أن الشعوب العربية والإسلامية لم تكن تتوقع من قانوني يهودي سوى التحيز لإسرائيل، إلا أن غولدستون أقبل على مهمته العظمى بأعلى درجات الحيدة والنزاهة التي تفرضها أخلاقيات مهنته الرفيعة.

وبالفعل فإن اللجنة قدمت إلى الهيئة الدولية تقريراً يشتمل على إدانة صريحة وقوية ومباشرة للدولة الإسرائيلية.. مما أثار غضبة عالمية على إسرائيل.

ولكن بعد مضي عدة شهور، قام غولدستون بتفجير مفاجأة. ففي مقالة نشرها في صحيفة بريطانية قبل نحو أسبوعين، تراجع عن قناعاته القانونية بما يفيد بتبرئة إسرائيل، في تناقض كامل مع مضمون التقرير الذي صار معروفاً باسمه.

حتى الآن لا نعرف على وجه الدقة سر تراجع هذا القاضي المهني، لكن تراجعه هذا قوبل بردة فعل قوية من أعضاء لجنته الثلاثة؛ دزموند ترافرز الخبير القانوني الأيرلندي، وهناء جيلاني محامية حقوق الإنسان الباكستانية.

وكريستين شنكين أستاذة القانون الدولي في كلية لندن للاقتصاد. فقد نشر ثلاثتهم بياناً مشتركاً في صحيفة «الغارديان» اللندنية، اتهموا فيه غولدستون بتشويه حقائق التقرير.

في كل الأحوال، أصبح من المؤكد الآن أن السياسة دخلت على خط التقرير من أجل نسف مصداقيته، فإسرائيل تطالب الآن بسحب التقرير نهائياً من أرشيف الأمم المتحدة وكأنه لم يكن. وتبع ذلك قرار صدر عن الكونغرس الأمريكي بمجلسيه، يطالب الأمم المتحدة بإلغاء التقرير جملة وتفصيلاً.

وفي هذا السياق يقول بيان الخبراء الثلاثة، إن الدعوات المطالبة بإعادة النظر في التقرير أو سحبه، فضلاً عن محاولات تشويه طبيعته، تستخف بحقوق الضحايا الفلسطينيين في معرفة الحقيقة والحصول على العدالة.

واعتبرت منظمة العفو الدولية مطالبة الحكومة الإسرائيلية الأمم المتحدة بسحب التقرير، محاولة لتجنب المساءلة عن جرائم الحرب وإنكار العدالة للضحايا.

وبالطبع فإن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح هو: ما الذي جعل خبيراً دولياً رصيناً في قامة ريتشارد غولدستون يغير موقفه بمقدار ‬180 درجة؟

من المؤكد أنه قد تعرض لعملية ابتزازية خطيرة من قبل أساطين المنظومة اليهودية العالمية، غير أنه من المستبعد أن تكون هذه العملية اتخذت شكل تهديد بالقتل.

ففي هذه الحالة سيكون الأمر مفضوحاً، الأرجح إذن هو أن غولدستون تلقى وعيدا من نوع «اغتيال الشخصية»، يتهدد مكانته الدولية ومستقبله المهني وسمعته.

لكن بالإضافة إلى أن قصة هذا الخبير الدولي طويل الباع، تنهض كدليل جديد على أن بوسع الحركة الصهيونية العالمية أن تطال أي شخصية مرموقة في هذا العصر، إلا أن الملابسات التي انبثقت عن صدور تقرير غولدستون، توضح أنه ما كان للحركة الصهيونية أن تتجرأ على محاولة نسف التقرير وقتله، لو أن القاضي غولدستون وتقريره الخطير حظيا بدعم عربي حازم وحاسم.

لقد شهدنا كيف أن قيادة السلطة الفلسطينية تجاوبت مع ضغوط أمريكية، للحيلولة دون عرض التقرير على لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة.

ورغم ذلك فإنه لا يزال متاحاً أمام الحكومات العربية، بما في ذلك السلطة الفلسطينية، تحقيق انتصار على الحركة الصهيونية بإحباط المسعى الأمريكي والإسرائيلي الرامي إلى سحب التقرير من الأمم المتحدة نهائياً.. فهل تفعل؟

Email