الأهم أن لا يتراجع الفلسطينيون

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو أن القاضي الدولي، الجنوب أفريقي الجنسية، واليهودي الديانة ريتشارد غولدستون قد خضع لضغوطات هائلة، حتى كتب مقالة، يدعو فيها إلى الحاجة لمراجعة التقرير الذي حمل اسمه عن الحرب الإسرائيلية المجرمة على قطاع غزة في السابع والعشرين من ديسمبر العام ‬2008. القاضي غولدستون، شكك في سلامة ومصداقية تقرير الفريق الذي قاده، مكتفياً بالقول إنه كان سيغير بعض أجزائه لو أنه كان يملك ما يمتلكه الآن من حقائق، لكنه لم يتطرق إلى تلك الحقائق، تاركاً لكل من أراد أن يفسر أقواله ويوظفها بالطريقة التي يشاء. إسرائيل كانت في انتظار مثل هذه الإشارات، لتنقض على التقرير بطريقة همجية، فتطالب الأمم المتحدة إلى إلغائه كلياً وإلقائه في «مزابل» التاريخ، فلقد أزاح التقرير عن كاهلها عبئاً أخلاقياً وقانونياً، لطالما اشتكت من آثاره وتبعاته التي تظهر في شكل ملاحقات قضائية لبعض مسئوليها في عدد من الدول الأوروبية، فضلاً عن عزلة متزايدة على الصعيد الدولي، وسمعة تتردى يوماً بعد آخر.

والحقيقة أن تراجع غولدستون عن تقريره بالقدر الذي يشكك في مصداقية التقرير، يتزامن مع حملة واسعة تقوم بها وزارة الخارجية الإسرائيلية على المستوى الدولي، لقطع الطريق على التحرك السياسي الفلسطيني الهادف لإحراز المزيد من الاعترافات بالدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة منذ عام ‬1967، ويتزامن أيضاً مع حملة إسرائيلية تستهدف تجميع المزيد من الذرائع والمبررات، وتحضير المجتمع الدولي لتقبل عدوان عسكري واسع تهدد إسرائيل بالإقدام عليه كل ساعة.

خارج إطار التوظيف الخاطئ، وغير المستند إلى القوانين، فإن تراجع غولدستون لا يعني شيئاً، ولا يمس القيمة القانونية والأخلاقية للتقرير الذي ينطوي على إدانات صريحة لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب، وبانتهاك القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وقرارات الأمم المتحدة والمواثيق الدولية المعروفة.

قيمة التقرير أولاً في محتوياته، وثانياً من كونه نتاج تحقيق امتنعت إسرائيل عن التعاون بشأنه، وبأن من قام بالتحقيقات هو فريق على رأسه غولدستون مكلف بقرار من المجلس العالمي لحقوق الإنسان، وبالتالي فإن تراجع غولدستون عن التقرير كلياً أو جزئياً، اليوم أو غداً، لا يرتقي إلى مستوى المساس في التقرير ومصداقيته. لقد أصبح التقرير ملكاً للمجتمع الدولي، حيث أنه دخل آليات العمل بعد أن تبناه بأغلبية، المجلس العالمي لحقوق الإنسان، وجرى التأكيد عليه مراراً، وصادقت عليه الجمعية العمومية للأمم المتحدة.

قبل أن يتراجع غولدستون كان المجلس العالمي لحقوق الإنسان قد عقد جلسة في الخامس والعشرين من الشهر الماضي، للبحث في أربعة قرارات كلها تتصل بالتقرير، واتخذت جملة من القرارات، التي يبين التصويت عليها، أن الولايات المتحدة قد تقمصت كلياً الدور الإسرائيلي، حيث صوت مندوبها برفض كل تلك القرارات فيما وافقت معظم الدول الأوروبية على بعضها، وامتنعت عن التصويت على بعضها الآخر.

في القرار الأول الذي وافقت عليه ثلاثون دولة، وامتنعت عن التصويت عليه خمس عشرة دولة، فيما عارضته الولايات المتحدة، ذلك القرار ينص على إدانة عدم احترام إسرائيل بوصفها سلطة الاحتلال للحقوق الدينية والثقافية المنصوص عليها في الصكوك الأساسية لحقوق الإنسان والقانون الإنساني في الأراضي الفلسطيني المحتلة. يشمل القرار أعمال الحفر والتنقيب الجارية حول مجمع المسجد الأقصى والمواقع الدينية الأخرى، والممارسات الإسرائيلية لطرد الفلسطينيين من القدس، وممارسات الاحتلال إزاء الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال، وأسوار مدينة القدس، ويطالب القرار بتوفير حماية دولية فورية للشعب الفلسطيني، والقرار أيضاً يطالب إسرائيل بإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام ‬1967 واحترام التزاماتها في إطار عملية السلام حيال إنشاء دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة عاصمتها القدس الشريف.

القرار الثاني يؤكد على حق الشعب الفلسطيني غير القابل للتصرف والدائم وغير المشروط في تقرير مصيره بما في ذلك العيش في ظل الحرية والعدالة والكرامة، في إقامة دولته المتواصلة، المستقلة والديمقراطية ذات السيادة والقابلة للحياة، ويفهم من القرار أنه جاء لكي يدعم حل إقامة الدولتين، غير أن الولايات المتحدة التي تدعي التزامها بهذه الرؤية للحل، هي الوحيدة التي صوتت اعتراضاً على القرار.

القرار الثالث والذي وافقت عليه دول المجلس بالإجماع باستثناء الولايات المتحدة، يحث على التنفيذ الكامل لاتفاق الوصول والتنقل والإسراع بإعادة فتح معبري رفح وكارني لضمان مرور المواد الغذائية والإمدادات الأساسية ووكالات الأمم المتحدة إلى الأراضي الفلسطينية. ويذكر القرار إسرائيل بضرورة تنفيذ قرارات وتوصيات مجلس الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان المتعلقة بحالة حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة بما في ذلك القدس.

ويتضمن القرار أيضاً تحديد الطرق الملائمة لإنشاء صندوق ضمان لتقديم التعويضات للفلسطينيين الذين تعرضوا لخسائر وأضرار بسبب الأفعال غير المشروعة المنسوبة لدولة إسرائيل أثناء حربها على قطاع غزة.

القرار الرابع والذي وافقت عليه ‬27 دولة، واعترضت عليه أميركا وبريطانيا وسلوفاكيا، فيما امتنعت عن التصويت عليه ‬16 دولة معظمها أوروبية، فينص على أن يرفع تقرير غولدستون إلى الدورة ‬66 للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي عليها إحالته إلى مجلس الأمن الدولي للنظر فيه واتخاذ الإجراء المناسب بشأنه.

القرار الرابع يتضمن فقرة تنسف تحفظات غولدستون التي أدلى بها تحت الضغط، فالقرار يدين بالنص الصريح «عدم تعاون سلطة الاحتلال الإسرائيلي مع أعضاء لجنة تقصي الحقائق المستقلة (غولدستون) وعدم تجاوبها مع دعوات مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة بإجراء تحقيقات مستقلة ذات مصداقية تستوفي المعايير الدولية». ومثلما بررت واشنطن اعتراضها المنفرد على مشروع القرار الذي قدمته المجموعة العربية لمجلس الأمن ضد الاستيطان، باعتبار أن مثل ذلك القرار يعطل جهود التسوية، فإنها استخدمت التبرير ذاته لشرح معارضتها لكل القرارات الأربع التي اتخذها المجلس العالمي لحقوق الإنسان.

أما امتناع الدول الأوروبية عن التصويت على القرار الرابع الذي يطالب الجمعية العامة برفع التقرير إلى مجلس الأمن، فإنه فضلاً عن كونه يمس بمصداقيته تلك الدول وادعاءاتها التزام قيم العدالة والديمقراطية، يشكل محاولة لإظهار قدر من التوازن عله يرضي إسرائيل بقبول الرغبة الأوروبية بتصعيد دورها السياسي في العملية السلمية بعد فشل الدور الأميركي. في المحصلة فإن من الصعب الاعتقاد بوجود فرصة لإنعاش عملية السلام التي تلفظ أنفاسها الأخيرة بسبب السياسات الإسرائيلية، فيما يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام خيار واحد هو المتاح وهو الاستعداد لخوض الصراع بكافة أشكاله. يمكن لغولدستون أو من كان أهم منه أن يتراجع، تحت ضغط الإرهاب أو النفوذ الإسرائيلي، خصوصاً إذا كان مدعوماً أميركياً، لكن الأهم هو أن لا يتراجع الفلسطينيون.

 

Email