جدلية العلم واللغة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعود علينا اليوم العالمي للغة العربية في كل سنة، وحال لغة الضاد ليس على ما يرام لأسباب عدة، من أهمها تحديات البحث العلمي وصناعة المعرفة، والعولمة والمجتمع الرقمي والوسائط المتعددة والإعلام الجديد. اللغة بحاجة إلى إنتاج علمي ومعرفي وفكري، وبحاجة إلى التأقلم مع المعطيات والتغيرات التي تحدث في العالم، وبحاجة إلى استراتيجيات وسياسات وشعب يعبر عنها ويحميها ويصونها، حتى تفرض نفسها محليا وعالميا، وحتى تبقى شامخة بين اللغات الفاعلة في العالم.

قال سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون). لقد حملت اللغة العربية الإسلام ومفاهيمه وأفكاره ونظمه وقيمه وأخلاقه، كما أصبحت لغة الدين والثقافة والحضارة والعلم والمعرفة والاقتصاد والسياسة، وقواعد ونظم السلوك والأخلاق والمنطق.

ما هو مستقبل اللغة العربية في عصر العولمة والإنترنت وثورة المعلومات؟ ما هي مكانة لغة الضاد في الخريطة اللغوية العالمية وفي الأوساط العلمية والفكرية؟ ما هو موقعها ومكانتها في المحافل الدولية؟ وما هو موقعها ومكانتها في عقر دارها وبين أهلها وذويها؟ ما هي مكانتها ودورها في وسائل الإعلام المختلفة وفي المنتجات الفكرية والأدبية والإبداعية؟ وهل استعمال العامية والدارجة واللهجات المختلفة أصبح شرط النجاح في التواصل مع الجمهور؟

أسئلة تستحق الوقوف والتأمل والدراسة، لأنها تثير قضية جوهرية في أيامنا هذه، وهي مكانة اللغة العربية في ضمير الأمة وفي وسائل الإعلام، وفي حياة المواطن العربي وفي وجدانه وطريقة تفكيره وعيشه. الواقع يشير إلى أزمة معقدة تتفشى بسرعة فائقة ومذهلة، والأمر خطير لعدة اعتبارات، من أهمها أن العولمة وعصر الإنترنت والمعلوماتية لا ترحم ولا تشفق، ومن لا يحصن نفسه بالعلم والمعرفة والإنتاج الفكري والأدبي، فإنه سيذوب لا محالة في الأخير، وسيصبح كاللقيط الذي لا يعرف له أصلا ولا فصلا ولا تاريخا ولا جذورا. للغة قيمة جوهرية كبرى في حياة كل مجتمع وأمة، فهي الوعاء الذي يحمل الأفكار وينقل المفاهيم.

ويقيم روابط الاتصال بين الفئات الاجتماعية المختلفة، فيفرز التقارب والتلاحم والانسجام. اللغة العربية هي التي نقلت الإسلام ونشرته في بقاع الأرض، كما نقلت الثقافة العربية عبر القرون والأجيال. فاللغة العربية هي البيئة الفكرية التي نعيش فيها، وحلقة الوصل التي تربط الماضي بالحاضر وبالمستقبل.

إذا نظرنا إلى إشكالية اللغة، يجب أن ننظر إليها ليس كمجرد وسيلة بريئة أو كناقل للأفكار والمعاني والتجارب فحسب، بل كثقافة وحضارة وكذاكرة اجتماعية. اللغة هي هوية الشعب والأمة، وهي الرافد الرئيسي لتطوره وتقدمه وعلومه وابتكاراته واختراعاته. واللغة هي القاسم المشترك الذي يجمع الأمة في التعبير عن أفراحها وأتراحها، وهي الناقل الذي يلمّ الشعب ويوّحده. فإذا أردنا أن نتكلم عن إشكالية اللغة، فإنه يجب علينا أن لا نفرغها من محتواها ومن أيديولوجيتها وأبعادها المختلفة، سواء كانت دينية أم سياسية أم حضارية أم أمنية أم قومية.. والقائمة قد تطول.

فاللغة، إذن، تحدد لنا كيف نفكر وكيف نلبس ونأكل ونمرح ونمزح، فهي وعاء كبير قد يلمّ معاني وأفكارا ومعتقدات وسلوكيات، تعكس الفرد في بعده الإنساني والحضاري والثقافي والاتصالي والديني والاجتماعي. ولهذا نرى دولا كبيرة وعريقة تنفق مئات الملايين من الدولارات سنويا، لنشر لغتها التي تعكس ثقافتها وحضارتها وتاريخها وطريقتها في الأكل واللباس وغير ذلك.

 فلا غرابة أن تؤسس فرنسا، مثلا، منظمة الفرانكوفونية وتنفق عليها بسخاء، لتحافظ على انتشارها في إفريقيا وآسيا ودول كثيرة أخرى في أنحاء العالم. بريطانيا من جانبها، ومن خلال الكومنولث، تعزز كذلك مكانة اللغة الإنجليزية في العالم.

ومن خلال اللغة ينشر البريطانيون حضارتهم وتاريخهم وطريقة معيشتهم ورؤيتهم للأشياء. فها هو المجلس الثقافي البريطاني وهيئة الإذاعة البريطانية ينتشران في معظم العواصم والمدن الكبرى في العالم، سواء في إفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية.

وهنا نتساءل؛ ماذا فعل العرب لنشر اللغة العربية وجعلها لغة العلم والفكر والحضارة والدين الإسلامي؟ أين هي المراكز الثقافية العربية في العواصم العالمية؟ وما هو الدور الذي تلعبه الملحقات الثقافية في السفارات العربية في العالم لنشر اللغة العربية؟!

اللغة تقوى بشعبها وأمتها، وتقوى كذلك بالإنتاج العلمي والفكري والثقافي. فاللغة تسود وتنتشر في العالم، بالعلم والمعرفة التي ترفدها. كما أن حركة الترجمة تعطي دفعاً قوياً للغة، للانفتاح والتثاقف وتكييف فكر وعلوم الآخرين للمواطن العربي.

الواقع، مع الأسف الشديد، يبعث على التشاؤم والحسرة والألم. ومن أهم أسباب ذلك، أن الإنتاج العلمي والمعرفي والثقافي والفكري العربي لا يتجاوز ‬1٪ من الإنتاج العالمي. بالإضافة إلى ذلك، نلاحظ أن حركة الترجمة في الوطن العربي، سواء من اللغات الأجنبية إلى العربية أو من العربية للغات الأخرى، لا يكاد يذكر، وهذا يعكس ضعف الاهتمام والاستثمار في هذا المجال الذي يعتبر رافدا استراتيجيا للغة وانتشارها والإقبال عليها. ففي العالم العربي أصبح الكلام يدور حول حماية اللغة العربية.

وليس حول نشر اللغة العربية وتطويرها وتكييفها مع تطورات العصر، لتبقى لغة العلم والمعرفة والتكنولوجيا. فاللغة تقوى بالعلم والإنتاج المعرفي والثقافي، وتنتشر وتتوسع من خلال ما تقدمه من علوم وحضارة وثقافة. ما وصلت إليه اللغة العربية في وسائل الإعلام المختلفة، شيء مؤسف ومحزن، حيث أصبح معظم هذه الوسائل، خاصة السمعية البصرية منها، تتفنن في استعمال اللهجات العامية الدارجة، وبافتخار واعتزاز! والمبرر هو أن العامية بسيطة ومفهومة لدى الجميع.

وإذا رجعنا إلى موضوع العامية بدلا من اللغة العربية الفصحى، نجد أن بعض المستشرقين والحاقدين على العرب والمسلمين، خاصة أولئك الذين كانوا يهدفون إلى طمس الهوية العربية ودفن الإسلام والحضارة الإسلامية، كانوا يصّرون على استعمال العامية.

وهذا ما حدث على يد المنظرين للاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر. وبذلك نجد الكثير من المستعمرين الفرنسيين في الجزائر، على سبيل المثال، كانوا يصّرون ويشجعون على استعمال الدارجة والابتعاد بقدر الإمكان على اللغة الفصحى، مما جعلهم ينشرون كتبا بالدارجة ويشجعون كل من يستعمل العامية في التعليم والنشر والاتصال الرسمي، وهم في نهاية الأمر من نشروا ثقافة تزييف القرآن وتحريفه وتجريده من معانيه الصحيحة، من خلال شبكة من المشعوذين وأشباه الدعاة.

 

Email